–
نعيش في سورية لحظاتٍ عصيبة تكاد تقطع الأنفاس، فلا يكاد يمرّ يوم، بل حتى ساعة، من دون حصول شيء يرفع الأدرينالين والضغط في عروقنا، ويوسّع الشروخ بين الفرقاء، الذين باتوا أكثر تعدّداً وحدّة وانقساماً. لا يودّ كاتب هذه السطور الدخول في موجة التبرير للسلطة الحاكمة، ولا في موجة الهجوم عليها، بل يسعى إلى وضع إصبع على مسألة من بين مئات، بل آلاف المسائل، التي تحتاج النظر فيها بعين فاحصة للوصول إلى الدولة التي ننشدها جميعاً، ودفعنا من أجلها أبهظ الأثمان.
تصدّرت الأخبار عناوين ملفّاتٍ كثيرة في الأيام الماضية، ولعلّ منها، إضافة إلى موضوع السويداء الكبير والشائك والمعقّد، بما يتضمّنه من تدخّل إسرائيلي سافر، ملفّ اعتقال مواطنة سورية يُقال إنها صحافية (نور سليمان) من جهة أمنية، وملفّ موت شابّ سوري عائد من ألمانيا (يوسف لبّاد من حي القابون)، وملفّ تحريك النائب العام في الجمهورية الدعوى العامّة بحقّ أربعة من كبار الشخصيات الأمنية والمدنية للنظام البائد (عاطف نجيب وأحمد حسّون ومحمّد الشعّار وإبراهيم حويجة).
لا بدّ بداية من التأكيد أنّ كثرة الأحداث مفهومة في بلد خارج من صراع امتدّ 14 سنة، إثر ثورة شعبية على نظام استبدادي استمرّ منذ 1963، ومن منطلق أنّه لا يمكن أن يتوقّع مُنصفٌ وموضوعي ضبط المجتمع في ظلّ فوضى انتشار السلاح وانفراط عقد الهُويَّة الوطنية وضعف المؤسّسات التي تركها نظام الحكم السابق، واهترائها وفسادها… فإنّ تسليط الضوء على القواعد الأساسية التي يجب أن تستند إليها معالجة هذه الحوادث سبيلٌ لا بدّ من سلوكه للمساهمة في جهود الضبط والتهدئة.
تتطلب المرحلة الانتقالية الحالية في سورية، بعد عقودٍ طويلة من الاستبداد وانعدام سيادة القانون، ترسيخ دعائم العدالة، وإعادة بناء الثقة المجتمعية
القاعدة الأساسية الأولى التي يجب تثبيتها موضوعة الحقيقة، ففي ظلّ تعدّد مصادر المعلومات وتضارب وجهات النظر واختلاف المصالح من نقل الأخبار، وانعدام وجود ضوابط واضحة للتحقّق من صحتها، يجد المتلقّي نفسَه في أجواء هستيرية، وكأنّه يعيش في بيمارستانٍ للأمراض العقلية، أو في حمّام سوق انقطعت عنه المياه. هنا يجب تأكيد أهمّية التنسيق بين الجهات الرسمية جميعها، الوزارات والإدارات والمديريات، التي تتناول حادثةً معيّنةً كي لا يقع التضارب ولا يحصل اللبس، ويجب أن تكون هناك لوائح إجرائية (بروتوكولات) محدّدة تضبط إيقاع التفاعل مع الأحداث فيصبح العمل منسجماً، حتى لو لم يحصل أيّ تنسيق مسبق. والقاعدة الثانية سيادة القانون. ففي ظلّ تعدّد الجهات الأمنية، وقلّة التنسيق بينها (إن لم نقل انعدامه)، ومع عدم وجود ضوابطَ واضحة تحدّد علاقتها بالجهات القضائية وبقيّة مؤسّسات إنفاذ القانون، وفي ظلّ تدنّي مستوى التأهيل والتدريب لعناصر هذه القوى، الذي لا يقتصر على التأهيل البدني بكلّ تأكيد، بل يشمل أيضاً الإعداد الفكري الذي يُعرّف العناصر وقادتهم بأهمية احترام الدستور والقانون وكرامة المواطنين وأساليب التعامل معهم، إضافة إلى قائمة طويلة من الشروط التي لا مجال لذكرها هنا، تتعقّد الأمور، ويدخل الحابل في النابل، ولا يعود المرء قادراً على معرفة المرجعيات المسؤولة ومصادر صنع القرار، وبالتالي، يفقد القانون دوره وتسقط قواعده ويخسر الجميع.
القاعدة الثالثة، كرامة الإنسان. لم يعد مطلوباً تكرار شرح المشروح وتأكيد المؤكّد، فالإنسان في أيّ دولة (أو هكذا يفترض)، يجب أن يكون محور الاهتمام والرعاية الأول حياته وحريته وكرامته وأمنه واستقراره ورفاهيته… إلخ. هذا الأمر هو الناظم الأساس لعمل كلّ مؤسّسات الدولة، فلا يُعقل أن تتبدّى أيّ مصالح على مصلحة الإنسان، مواطناً كان أم زائراً مقيماً للعمل أو الدراسة أو سائحاً أو غير ذلك. المقياس الأول في تقييم الدول في عصرنا الراهن احترامها حقوق الإنسان التي باتت مركوزة في الضمير البشري، وبغضّ النظر عن العلاقات الدولية، والمصالح التي قد تشعل الحروب، فإنّنا هنا نتحدّث ضمن إطار الدولة في زمن السلم. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ القوانين والأعراف الدولية التي تأخذ بمبدأ تقييد بعض الحقوق والحريات خلال فترات الاضطراب، تمنع بأيّ شكل، وتحت أيّ ظرف، المساس بكرامة البشر. يمكن اعتقال الأفراد في حالة الطوارئ مثلاً وفي حالات خاصّة جدّاً خارج إطار الدورة المستندية لقوانين الإجراءات الجنائية، لكن لا بدّ من عرضهم بأسرع وقت على القاضي المتخصّص، ولا يجوز في أيّ حال إهانتهم أو تعذيبهم على الإطلاق.
ومن العودة بالزمن بضعة أشهر قليلة إلى حادثة الاعتداء على قاضٍ في حلب من أحد ضباط الأجهزة التنفيذية، نجدنا أمام واقع ممتدّ بدأ بشكلٍ لا يوحي إلا بهذه النتيجة التي وصلنا إليها. كانت تلك الحادثة مؤشّراً خطيراً على التحدّيات الهيكلية التي تواجه النظام القانوني والسياسي والمجتمعي في سورية، فهي تكشف هشاشةَ مبدأ فصل السلطات، وضعف استقلال القضاة. إنها تستدعي النظر بعمق إلى مفهوم سيادة القانون وأهميته في هذه المرحلة التأسيسية لبناء الدولة، وإلى الدور المحوري للتربية المجتمعية في ترسيخ احترام هذا المبدأ، إضافة إلى أهمية تأهيل كوادر جميع مؤسّسات إنفاذ القانون، وإعادة هيكلة المؤسّسة القضائية ذاتها.
غياب سيادة القانون أو الشعور بذلك، يدفع المواطنين إلى البحث عن حلول خارج الإطار القانون
ينتقد كثيرون من السياسيين والحقوقيين والفاعلين المؤثّرين تعامل مؤسّسات الدولة مع بعض القضايا، واصفين إياها بالمتذاكية في زمنٍ لم تعد تنطلي فيه هذه الأساليب على أحد، وفي زمنٍ لم يعد يسكت فيه السوريون عن الخطأ أو الضيم. من ذلك مثلاً إعلان اعتقال شخصيات مهمّة، أو اتخاذ إجراءاتٍ بحقّ بعض المعتقلين منهم، أو إعلان اتفاقات من هنا وهناك لصرف الأنظار عن القضايا التي تخطئ السلطة في معالجتها. يندرج ضمن هذا الإطار موضوع إعلان النائب العام ملاحقة المتهمين الأربعة المذكورين أعلاه، في تضارب وتداخل مع صلاحيات الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، المشكّلة بموجب المرسوم الرئاسي رقم 20، تاريخ 17 مايو/ أيار 2025، ونصّ على اختصاص الهيئة في: “كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبّب بها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية…”. يرى بعضهم أنّ هذا الإعلان جاء للتغطية على التخبّط بموضوع اعتقال المواطنة نور، وموت المواطن يوسف، وقد يكونون محقين في ذلك.
المرحلة الانتقالية الحالية في سورية تأسيسية بعد عقودٍ طويلة من الاستبداد وانعدام سيادة القانون، ولذلك تتطلّب ترسيخ دعائم العدالة، وإعادة بناء الثقة المجتمعية. في هذا السياق، لسيادة القانون أهمية قصوى، تتجلّى في أوضاع عديدة، فهي تساهم في منع الفوضى وتفكّك النسيج الاجتماعي. يدفع غياب سيادة القانون أو الشعور بذلك، المواطنين إلى البحث عن حلول خارج الإطار القانوني، مثل اللجوء إلى العنف أو الوساطات غير المشروعة. وهنا يأتي دور القضاء المستقلّ الكفوء المؤهل العادل الحيادي النزيه، ليكون ضمانةً للدولة وللمجتمع وللأفراد جميعاً. … نحن السوريون عند مفترق طرق، فإمّا أن نكون وتكون سورية أو أن ندخل في نفق مظلم لا يعلم نهايته إلّا الله.