في اللحظة التي حملت فيها الشعوب العربية شعارات الحرية والديمقراطية، كانت هناك قوى تعمل في الخفاء، تستعد للانقضاض على هذا الحلم الوليد. ففي سوريا، لم تكن السلفية الجهادية سوى أحد أبرز أذرع الثورة المضادة، ممثلة بداعش وشقيقاتها، ولاحقا النصرة وجبهة تحرير الشام التي ارتدت لبوس “التقية والطهرانية” و”النقاء الديني” لتمنح مشروعها السلطوي غطاءً مقدسًا يبرر سحق الآخر، وكان استبدال الطغيان الاسدي بآخر ديني أشد قسوة وإجرامًا.
سلطة دمشق الجهادية، بما تمثله من تيارات أصولية عابرة للدول، لم تخرج من رحم الانتفاضة الشعبية السورية، بل تسللت إليها بالعنف والدهاء السياسي القائم على المراوغة والكذب. فبعد أن قضت على فصائل الجيش الحر وأعادت تموضعها في مشهد الثورة، قدّمت نفسها كقوة “ثورية” تحارب الطغيان، بينما كانت في الحقيقة تُهيئ الأرض لبناء إمارة إسلامية، لا تعترف بالدولة السورية ككيان سياسي إلا تقية، ولا تقبل التعدد، ولا ترى في الديمقراطية إلا “ردة” وكانت هذه النسخة الشامية المطورة من نسخ القاعدة الجهادية، وتميزت بتبريرها لتسويق الكذب والمناورة السياسية في مشوارها نحو السيطرة والتمكن بعكس النسخ السابقة المتوحشة بشكل جبهي عنيف ودون مراوغة او مناورة، ما جعل صانع القرار الامريكي يعجب بهذه النسخة ويدعمها تكتيكيا.
إن هذا المشروع الجهادي لا يطمح لإسقاط الاستبداد بقدر ما يسعى لاستبداله بنظام حكم ديني لن يعترف بالحقوق الفردية وحقوق الإنسان ، ويقوم على قمع الحريات، وإلغاء دور المرأة، وتكفير المخالف، وملاحقة الأقليات، بل ومحاربتها وجوديًا كما شهدنا في مجازر الساحل ضد العلويين ولاحقا احداث جرمانا وصحنايا وحاليا في السويداء ضد الدروز. إنها سلطة لا تحتمل المختلف حتى ولو كان سنّيا مثلها، ولن تعترف بالدولة المدنية، وتؤمن فقط بنموذج الإمارة التي تسحق التنوع باسم “الشرع” رغم قبولها مرحليًا وشكليًا بما يسمى الدستور والحوار.
دعم أمريكي براغماتي… وقصر نظر استراتيجي
المفارقة المقلقة، أن هذا المشروع يجد اليوم نافذة دعم ضمن السياسات الأمريكية البراغماتية. فالإدارة الأمريكية الترامبية، في سعيها لتوازن القوى ولاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، تراهن مرة أخرى على “الإسلام السني” كـ”توازن ناعم وربما خشن وقت الحاجة” في وجه التمدد الشيعي. وهذا، في حد ذاته، تبسيط خطير للواقع المعقد في الشرق الأوسط، إذ لا احد يتوهم بجدوى وضرورة عودة السنة الى السياسة في سوريا وحكم البلاد بمشروع الدولة الديموقراطية ولكن المطلوب سنّة الاعتدال والمدن والحداثة وليس سنّة الجهاد والتطرف بحواملها الريفية والقبلية العشائرية الماضوية وهي المنتشية اليوم بوهم الانتصار بعد ان جاءت مع هروب الاسد في ديسمبر ٢٠٢٤ لتحكم دمشق.
ان الرهان الأمريكي بإمكانية توظيف هذا النموذج السني الجهادي، والتحكم فيه عبر ميزان القوى والتفوق التقني لإسرائيل والغرب، هو رهان على برميل بارود. إذ يغفل هذا التصور عن حقيقة أن السلفية الجهادية، بطبيعتها، لا تعترف بالتحالفات ولا بالحسابات الجيوسياسية، بل تنطلق من منطق العناد والحيونة العقائدي والذي يصعب تدجينه أو استيعابه ضمن لعبة المصالح الدولية لينتقل من مرحلة المراوغة للسيطرة والتمكين الى المشاغبة والعنف ولاحقًا إلى المواجهة المفتوحة مع كل الاطراف، بعد أن تفرض هذه السلطة سيطرتها الداخلية – إن تحقق لها ذلك – فإن أولوياتها لن تكون التنمية ولا العدالة، بل التوسع الجهادي الإقليمي، ومواجهة إسرائيل لا كقضية تحرر وطني بل كـ”غزوة مقدسة”، يختلط فيها اللاهوتي بالدموي. كما اتجهت فور استلامها السلطة وبشكل ممنهج إلى استهداف الأقليات الطائفية والدينية في سوريا والمنطقة، مما يفتح الباب أمام موجات جديدة من التطرف والانقسام والحرب الأهلية طويلة الأمد، ما ينعكس فوضى واشتباكات تمنع الاستقرار المطلوب لانجاح المشروع الاقتصادي القائم على الاتفاقيات الإبراهيمية.
إن خطورة سلطة دمشق الجهادية لا تكمن فقط في مشروعها الإقصائي الديني، بل في كونها تتلاعب وتراوغ للتمكن وتجد اليوم غضّ طرف دولي ودعمًا غير مباشر من قوى تعتبر نفسها راعية للحرية والديمقراطية.
إنها لحظة الحقيقة، يستوجب فيها على القوى الديمقراطية، محليًا ودوليًا، أن تفضح هذا المشروع وتفكك خطابه، وترفض التواطؤ مع من يذبح باسم “الإسلام السني”، حتى لو بدا كحليف تكتيكي ضد “حزب الله” او قوى معادية أخرى.
لقد أثبت التاريخ مرارًا أن من يرعى الوحوش والأفاعي لأغراض استراتيجية، سرعان ما يُلدغ منها.
مقال رأي
مواطن سوري
بتاريخ 3.8.2025