يوم الأحد الماضي ذهب الناخبون في تايوان إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيسهم وأعضاء برلمانهم للسنوات الأربع المقبلة. وفاز مرشح الحزب التقدمي الديمقراطي لاي تشنغ تيه بمنصب الرئاسة، في حين فقد حزبه الغالبية البرلمانية لمصلحة الحزب المنافس «الكيومنتانغ» الذي حكم تايوان بقبضة حديدية منذ فرار تشان كاي تشك من البر الصيني أمام القوات التي كان يقودها الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ، في العام 1949، وصولاً إلى العام 2000 حين فاز الحزب التقدمي الديمقراطي بالسلطة، وحقق إصلاحات اقتصادية وسياسية حولت «الصين الوطنية» (تايوان) إلى بلد ديمقراطي ذي اقتصاد ديناميكي رفعها إلى مستوى البلد العشرين من حيث حجم اقتصادها، بمعدل دخل فردي متوسط بلغ 32 ألف دولار في السنة.
الواقع أن فوز تيه بمنصب الرئاسة لا يعني تغييراً في السلطة، لأنه كان أصلاً نائباً للرئيسة الحالية تساي إنغ ون الزعيمة السابقة للحزب نفسه ذي الميول الاستقلالية عن جمهورية الصين الشعبية. غير أن هذه الميول كانت في حال من الكمون ما دامت الصين الشعبية مكتفية بكونها «الممثل الشرعي الوحيد» للصين وتشغل مقعد هذا البلد في الأمم المتحدة، بما في ذلك العضوية الدائمة في مجلس الأمن. لكن الأمور بدأت تختلف منذ تصاعدت التهديدات الصينية بضم تايوان إلى البلد الأم، من وجهة نظرها، مع صعود شي جين بينغ إلى قمة السلطة في بكين، ودخول الولايات المتحدة على خط الخلاف بين «الصينيين» وتعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالدفاع عن تايوان إذا تعرضت لغزو صيني، في إطار الاستراتيجية الأمريكية المعلنة لتطويق الصين الشعبية بتحالفات عسكرية تمتد من المحيط الهادي إلى بحر الصين. وبعد غزو القوات الروسية أوكرانيا في شباط 2022، تزايدت المخاوف من ابتلاع العملاق الصيني لتايوان في مناخ اتضحت فيه محدودية الردع الأمريكي المحتمل للمطامع الإمبريالية الصاعدة في موسكو وبكين وحتى في طهران.
ردود الفعل السلبية في بكين على فوز تيه بمنصب الرئاسة تشير إلى أنها كانت تفضل فوز ممثل الحزب الوطني الصيني (الكيومنتانغ) الذي يدعو لوحدة البلدين إنما بالحفاظ على نوع من الاستقلالية على نمط هونغ كونغ الذي يشار إليه بصيغة «بلد واحد بنظامين مختلفين» وهي الصيغة التي أخلت بها بكين في الواقع العملي من خلال رغبتها بفرض نظامها السياسي المركزي على الجزيرة الصغيرة. سوف يستلم تيه منصب الرئاسة بصورة رسمية في شهر أيار القادم، وليس من المتوقع أن يقوم بأي خطوات قد تعتبرها بكين استفزازية، لكن التصعيد هو ما قد يأتي من واشنطن من خطوات شبيهة بالزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي التي قامت بزيارة رسمية لتايبة واعتبرتها بكين استفزازاً لها جعل العلاقات الأمريكية ـ الصينية في أعلى مستويات التوتر. والحال أن بكين تعتبر أن أي حدث يتضمن اعترافاً بتايوان كدولة مستقلة من قبل أي دولة ثالثة إخلالاً بسيادتها. وقد تستغله كذريعة لتنفيذ حلم الرئيس الصيني بينغ بتوحيد الصين.

حالة «العالم متعدد الأقطاب» قد باتت أمراً واقعاً، بالنظر إلى تراجع قوة القطب الواحد دبلوماسياً وسياسياً، وتجنبه التورط في الصراعات العسكرية إلا بطريقة الدعم من الخلف» التي بدأت في عهد أوباما

على ضوء هذه الاعتبارات قد يستمر الوضع الحالي في ظل حكم الرئيس الجديد لتايوان، ما لم تر بكين في علامات الضعف الظاهرة في القوة الأمريكية، أمام الصراعات الدولية المتفجرة من أوكرانيا إلى غزة، ومن اليمن إلى طهران وسوريا، فرصة سانحة لغزو تايوان وضمها إلى القارة الصينية. ففي هذه الحالة ستذهب دولة تايوان وشعبها «فرق عملة» في «الحرب الباردة الجديدة» وتتقبل واشنطن الأمر الواقع حتى لو أظهرت رفضها و«إدانتها» من غير قدرة على خوض حرب جديدة لا تريدها.
ولكن من شأن سيناريو مماثل أن يقوّض ما تبقى من توازنات في العلاقات الدولية كانت واشنطن تتمتع فيها بوضع القوة الأولى عالمياً القادرة على فرض شروطها من غير استخدام القوة العارية.
لقد تمكنت جمهورية الصين الشيوعية من فرض الاعتراف بها كممثل وحيد للصين منذ العام 1971، وبذلك تحدد مصير تايوان من حيث المبدأ بعدما سحبت جميع الدول الكبيرة اعترافها الدبلوماسي بها، ولم يبق غير عدد محدود من الدول الصغيرة التي ما زالت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية معها. وكان الرهان الغربي على «رسملة» الصين بقيادة دنغ سياو بينغ في السبعينيات هو الرائز الذي دفعها لهذا الموقف. لكن التطورات اللاحقة أدت إلى استمرار النظام الشمولي في بكين وزيادة القبضة الحديدية مع نجاحات اقتصادية جعلتها المنافس الأقوى للاقتصاد الأمريكي وطامحة لتغيير النظام الدولي القائم نحو حالة من تعدد الأقطاب يمنحها موقعاً مساوياً للولايات المتحدة في المعادلات الدولية.
الواقع يمكن اعتبار أن حالة «العالم متعدد الأقطاب» قد باتت أمراً واقعاً، بالنظر إلى تراجع قوة القطب الواحد دبلوماسياً وسياسياً، وتجنبه التورط في الصراعات العسكرية إلا بطريقة الدعم من الخلف» التي بدأت في عهد أوباما. وحتى هذا النهج بات مشكوكاً في جدواه إذا نظرنا إلى حربي أوكرانيا وغزة وقدرة إيران على التحرش بالقوات الأمريكية في الشرق الأوسط.
أما نحن فلا عزاء لنا سواء بقطب واحد أو عدد من الأقطاب في نظام دولي يقسم البشر إلى شعوب فوق القانون وشعوب بلا قيمة لحياتها أو موتها.

كاتب سوري

قد فاتتك قراءة