بين الشرق والغرب، حسب الكاتب اللبناني جورج قرم، «جدار منيع من الأفكار المسبقة والسطحية» يدفع مجتمعاتهما إلى تقوقع على الذات وعداء للآخر، فهل لهذا الجدار جذور في الواقع الموضوعي، وهل للشرق والغرب سمات أبدية سرمدية، لا تتغيّر، وأين حدود الشرق والغرب، أصلا، ومن يحددها؟
تقتضي الإجابة عن هذه الأسئلة، كما يرى قرم في كتابه «شرق وغرب: الشرخ الأسطوري»، سبر غور فلسفة الأنوار الأوروبية ومناهج الفكر في العلوم الإنسانية الرئيسية الحديثة، من جهة، وردود فعل المجتمعات «الشرقية» في احتكاكها مع «الحداثة» الآتية من الغرب، ضمن الإطار التاريخي لـ»ديناميكية المجتمعات الغربية وهيمنتها على مقدّرات العالم».
يبدأ خط خيالي بين المفهومين بالتكوّن مع ظهور خطاب نرجسيّ غربي يؤكد شخصية الغرب المتميزة عن شخصيات سائر الشعوب، ويؤكد للآخر «الشرقي» أنه غير قابل لاستيعاب أسباب التقدم. تنبع خيالية الخط من عدم ثباته التاريخي وتأرجحه، حسب تطورات السياسة الدولية والدلالة على ذلك تقلّص الحيّز التاريخي والجغرافي والرمزي لهذا المفهوم في العقود الأخيرة، مع انحسار الهيمنة الغربية عن مناطق شاسعة من «الشرق» (مثل اليابان والصين وروسيا). لا يلبث أن يتم تلبيس هذا الخط، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وواقعة 11 أيلول/سبتمبر، ليقتصر على العالمين العربي والإسلامي.
يقترح قرم ما كان المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي قد سمّاه «نقدا مزدوجا»: نقد لـ«الهذيان» الناتج عن هذه «الجدلية العقيمة المفروضة على الأذهان» في الشرق كما الغرب، عبر محاكمة مثقفي الطرفين الذين يتحملون مسؤولية «الثنائية الفتاكة لتقسيم العالم إلى شرق وغرب». يخص قرم «الحركات الدينية السياسية الإسلامية الطابع» هنا بمسؤولية التجاوب مع الطروحات الغربية «مما يسهّل للدوائر السياسية الغربية أن تسير على خططها العدوانية تجاه المجتمعات الشرقية».
تترابط الاصطدامات التاريخية الهائلة المعاصرة لدى الكاتب (هجوم «القاعدة» في نيويورك، وما تبعه من الاجتياح الأمريكي ـ الأطلسي لأفغانستان والعراق) مع الأعمال الأكاديمية والروائية والدراسات الميدانية و«الأغلفة المثيرة عن الإرهاب والإسلام» ليصبح كل ذلك «رحما خصبا لتفريخ النزعات العنصرية» ولخلق «تهويمات تؤجج مخاوفنا ووساوسنا».
أحد العناصر التاريخية التي ساهمت في تكريس هذا الشرخ، حسب الكتاب، هو أن العرب، على عكس الترك والصينيين وغيرهم، لم يستطيعوا منع الهيمنة الغربية عليهم، منذ غزو نابليون لمصر عام 1798 وحتى «الغزو الصهيوني» لفلسطين. فـ«المقاومة العسكرية الظافرة تفرض دوما الاحترام». تحتضن القوة أيضا، حسب قرم، «براعم الديني»، بحيث «تجعل الغرب عالما «مقدسا»، يحظر المساس به».

دوركهايم: لا تنسوا أنني ابن حاخام!

يتبيّن قرم معالم «الشرخ» في أساسات الفكر الغربي مع تنظيرات ماكس فيبر، التي لا تزال تهيمن على العلوم الاجتماعية، والتي تقوم بالفصل بين مجتمعات حديثة معقلنة وأخرى «سحرية» يسيطر فيها الدين والعائلة وكاريزما الزعيم؛ وكذلك لدى عالم الاجتماع إميل دوركهايم، الذي يكرّس أيضا هذه الثنائية بين مجتمعات أوروبية «متحررة من سيطرة الدين» و«المجتمعات البدائية» (رغم مفارقة أنه كان يردد أمام المقربين إليه: «لا تنسوا أنني ابن حاخام»)!

يدرج قرم كذلك دور علماء الألسنية الغربية الذين طوروا التقسيم الأسطوري للعالم بين آريين وساميين وزعموا أن اللغات تتطابق والبنى الذهنية للأعراق، وبهذه النظرية تمت نسبة دينامية الغرب وتفوقه في هرمية الحضارات إلى ذلك الأصل الآري.
يصل الكتاب إلى استنتاج مثير وهو أن العلمنة في الثقافة الغربية المعاصرة هي «علمنة مخادعة»، كونها «لم تستطع الانعتاق عن النماذج الأولية التوراتية: النبوية، الشعب المختار، خلاص البشرية». لقد بقيت هذه العلمانية، الشكلية في المضمون، «رهينة الآلية الخفية للديانات التوحيدية»، فيما ساهمت «ثقافة الهولوكوست» بعد ذلك «في تعزيز اليهودية كعنصر مؤثر في العلاقات الدولية».
يموضع الكاتب هذه الأساسات الفكرية ضمن دورها في «مصالح النافذين الدنيوية» ونزاعاتهم، رابطا بين الأحكام التقويمية التي تطلقها الثقافة الأوروبية على الشعوب والطوائف الدينية و»الأقليات» العرقية، بسياسات الدول الكبرى والفتوحات.

هجاء فولتير لمحمد ونقد رينان للإسلام

ضمن تطبيق «النقد المزدوج» آنف الذكر، يربط قرم بين حرب العداء للإسلام، على شكل ما فعله رينان في كتابته عن «بلادة الذهن السامي المتجسد في الإسلام»، ورسالة هجاء فولتير للنبي محمد الذي يصفه بـ»المسيح الدجال»، وتقبّل ذلك لدى مفكرين شرقيين «يرددون من دون وعي ما تعلموه من الأدباء الأوروبيين المشهورين، ساعين بذلك إلى التخلص من عقدة نقص يستشعرونها أمام تفوق أوروبا»، لكنه يشير أيضا إلى تراجعات جسيمة عند بعض الكتاب الإسلاميين، عن أسلافهم الإصلاحيين في مطلع القرن 19، الذين باتوا يعتبرون «العلمنة، وهي جزء ملازم لكل ديمقراطية، آلة حرب غربية ومؤامرة يهودية ـ مسيحية ضد الإسلام».
في تحليله لصعود المواجهة الحادة التي يصوغها الغرب، على شكل صراع بين – نحن «المتحضرون» و – هم «البرابرة»، يلتقط الكاتب منعطفا إشكاليا كبيرا في طور الثقافة الغربية الصاعد هذا، يغيّر تاريخه الافتراضي الذي يبدأ من علمانية تاريخ الإغريق، ليهبط إلى العهد التوراتي الذي يحارب فيه «شعب الله المختار» الشعوب المتخبطة في الجهل. على الضفّة الأخرى «الشرقية»، يورد قرم أيضا، ما تمثله ظاهرة بن لادن، الذي «يقذف نارا دينية مفوّعة الحمم يحار أمامها كبار المحللين»! تختلط هنا، على ما يبدو، حمم الهذيانات الغربية وانعكاساتها الشرقية، وبالعكس. وهكذا فرضت رمزية 11 سبتمبر نفسها في كل مكان على أنها «الحرب الواقعة بين الحضارة والبربرية، بين الديمقراطية والإرهاب، بين الإسلام والغرب اليهودي ـ المسيحي». وبذلك عادت الكليشيهات الدينية والترسيمات التوراتية والحروب المقدسة و»انتقامات الله» لتطغى على الدراسات وسلوك السياسات الدولية.
أنجز «اختراع المخيّلة الغربية للجذور اليهودية – المسيحية»، حسب الكاتب، مصالحة كانت مستحيلة لمدة 150 عاما، وتحقق بذلك «انقلاب ثقافي ـ ديني الطابع» يدمج اليهودية بالتراث الغربي. تترتب على هذا الانقلاب نتيجتان كبريان، الأولى تعتبر الهولوكوست قربانا استشهاديا جماعيا يجعل اليهود شعبا مظلوما مضطهدا تمت إزالة الغبن التاريخي عنه بإنشاء دولة خاصة به، والثانية هي عزل الدين الإسلامي ونبذه، بحيث يصبح «شكلا من أشكال انحطاط اليهودية وعقلانية مبتورة لم تنجز، وتستعصي على الاستمرار في شكل علماني وحديث».
لكاتب هذه السطور نقاط اختلاف مع مجمل تحليلات الكتاب، لكنّ أهمّها هو أن قرم، في سعيه لكشف أسطورية الشرخ بين الشرق والغرب، قام بخلق خطّ آخر وهميّ، في اعتقادي، وهو خط الفصل بين الدنيوي والديني، وشرح هذا سيكون في مقال لاحق.
يقترح الكاتب، لمواجهة الظواهر الفكرية الغربية والشرقية النابعة من ديناميّات القوة الغربية وهيمنتها على العالم، تبني الفكر النقديّ الغربي والشرقيّ الذي يحارب «العلمنة المخادعة» ويكشف جذورها الدينية، التي كرستها النظريات العرقية والألسنية العنصرية، وصولا إلى تبني النظام السياسي الغربي فكرة «الجذور اليهودية – المسيحية» للحضارة الغربية، مبيّنا مخاطرها الكارثية على العالمين العربي والإسلامي.
يكتسب هذا الاقتراح وجاهة كبيرة لكنّه، في الظروف الحالية التي تشهدها الحضارة الغربية، والتدهور المتواصل في المنظومة العربية ـ الإسلامية، لا يبدو أن حظوظه، شرقا وغربا، كبيرة!

كاتب من أسرة «القدس العربي»