تعوّل الولايات المتحدة على دور صيني في إقناع إيران للضغط على حلفائها الحوثيين في اليمن، لوقف الهجمات على السفن في البحر، والتي تلقي بتأثيراتها على التجارة الدولية، وتنعكس نقصاً في سلاسل الإمداد بسبب ارتفاع كلفة التأمين واضطرار شركات بحرية كبرى إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، عوض سلوك قناة السويس في الطريق من أوروبا إلى آسيا وبالعكس.
وما زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى بكين وإجراء 12 ساعة من “المباحثات الاستراتيجية” مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على مدى يومين، إلاّ دليل على أنّ واشنطن تقرّ بالحاجة إلى دور الصين في هذه المرحلة لمواجهة التحدّيات العالمية، وفي مقدّمها حرب غزة وتداعياتها في الإقليم.
الذهاب إلى الصين ينمّ عن اقتناع أميركي بأنّ الضربات العسكرية التي توجّهها القوات الأميركية لمواقع داخل اليمن، لن تشكّل حلاً مجدياً لمشكلة الملاحة في البحر الأحمر، التي ربطها الحوثيون بالحرب الإسرائيلية على غزة.
وبما أنّه لا تلوح نهاية قريبة لهذه الحرب، ولأنّ إدارة بايدن لا تريد التورط في نزاع آخر في الشرق الأوسط، فإنّها اضطرت إلى الاستعانة بالصين التي تقيم علاقات مميزة سياسياً واقتصادياً مع طهران، كي تقنع إيران بممارسة ضغط على الحوثيين، كي يوقفوا هجماتهم.
كما أنّه ليس بخافٍ أنّ الصين هي الأخرى في مقدّم الدول المتضرّرة من عرقلة الملاحة في البحر الأحمر، وربما كان هذا عاملاً شجّع إدارة بايدن على إثارة المسألة مع بكين، والطلب منها مباشرة الإضطلاع بدور في إيجاد تسوية لهذه المشكلة التي تضغط على أوروبا أيضاً، التي هي من أكبر الخاسرين من أحداث البحر الأحمر.
وبينما كان سوليفان في بكين، انتهز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذكرى مرور 60 عاماً على إقامة العلاقات الديبلوماسية بين بلاده والصين، ليقول إنّه يتعيّن على البلدين “البحث في شكل متزايد عن سبل للشراكة”، التي “تساهم في السلام والاستقرار الدوليين”.
وفي إشارة مفعمة بالدلالات، ذكّر ماكرون بـ”القرار التاريخي الذي اتخذه الجنرال شارل ديغول في 27 كانون الثاني (يناير) 1964، بإقامة علاقات ديبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، في وقت كان العالم يواجه منطق تكتلات لا يمكن تجاوزه”.
ما أراد ماكرون قوله هو دعوة صريحة إلى ملاقاة الصين، في وقت تثقل التحدّيات الجسيمة، على العالم، من الحروب والصراعات إلى الفقر والتغيّر المناخي، والتي لا يمكن لقوة واحدة في العالم بالغاً ما بلغت من العتو، أن تحلّها بمفردها.
ولعلّ ماكرون من الزعماء الغربيين، الذي لا يدعو إلى صراع حاد مع الصين، ويؤمن بأنّ عالماً متعدد الأقطاب قد يكون أكثر فائدة في رحلة البحث عن حلول للمشاكل التي تواجه البشرية على أكثر من صعيد.
إنّ عالماً تزداد فيه التكتلات سواءً على أسس جيوسياسية أو إيديولوجية، هو عالم محكوم بتعدد الأزمات.
وعندما يتخلّى الغرب عن النظر إلى الصين كمنافس يجب احتواؤه، عوضاً عن إيجاد أرضية مشتركة للتعاون معه، يمكن عندها بروز عالم أكثر تصالحية وأكثر استعداداً للتعاون في مواجهة المخاطر الناشئة.
والصين، القوة الاقتصادية الثانية في العالم، يحق لها أن تبحث عن مصالحها، مثلما تفعل كل الأمم الحيّة في هذا العالم.
المشكلة تكمن في أنّ الولايات المتحدة التي تزعمت العالم بعد سقوط جدار برلين ومعه الاتحاد السوفياتي، لا تسلّم بالسهل بقيام عالم متعدد الأقطاب، علماً أنّ هذه الذهنية قادتها إلى حروب خاسرة في العراق وأفغانستان، وتهدّدها اليوم بتورط آخر في الشرق الأوسط.
وعندما قرّرت الولايات المتحدة وضع حدّ لحروبها في الخارج بانسحابها من أفغانستان في 2021، وجدت أنّ العالم قد تغيّر في فترة 20 عاماً، وأنّ الصين صارت منافساً اقتصادياً نداً لها، ويملك طموحات إلى أدوار سياسية توازي حجمه الاقتصادي.
ومهما تأخّرت واشنطن في الإقرار بالتحوّلات الجديدة التي تطرأ على العالم، فإنّها في النهاية مضطرة إلى مدّ اليد للصين وغيرها من الدول التي تسعى كي تكون لها أيضاً مكانتها العالمية.