1 ــ أسى وغضب وخزي
لم أعلم بخبر وفاة سليم النفّار إلّا بعد مرور أربعين يومًا. أعترف بهذا خجلًا! إلّا أنّي خلالها لم أتوقّف كلّ يومين، أو ثلاثة، عن كتابة رسالة له على الواتساب، أو على الماسنجر، أحاول الاطمئنان فيها على سلامته وسلامة عائلته: “كيفك أبو مصطفى؟ أطلت الغياب! طمّني عنكم؟”. “يا سليم. عسى خير. قلبنا معكم”. “صباحو أبو مصطفى. لك زمان لم تفتح الواتس. قلقان عليكم!”.
18/ 1/ 2024: “سليم. طمّني. لهلق ما في خبر عنكم!”.
وكذلك كتابة منشورات متتالية على حسابي في فيسبوك: “منذ 11/11 والشاعر والروائي الفلسطيني المقيم مع عائلته في غزّة خارج كلّ أنواع الاتصالات، يرجى ممن يعرف أي معلومة أن يطمئننا عنه”.
لكن أحدًا لم يتبرّع ويفيدني بشيء. غير أنّه يومًا لم يخطر على بالي أن أبحث عنه وعن أخباره في مواقع الإنترنت، لأنّه ما كان يخطر على بالي، على الإطلاق، أنّه يمكن، بهذه البساطة، أن يكون سليم نفّار أحد ضحايا الغزو الاسرائيلي، رغم علمي أنّ القصف الإسرائيلي لا يفرّق، وأنّه من الممكن أن يطاول أيّ إنسان يحيا في غزة، ولكن ليس سليم النفّار. لا، لا يمكن أن يصيب القصف مهما بلغ انتشاره سليم النفّار الشاعر والروائي، لا ريب أنّه انتقل مع عائلته إلى مكان آمن، هو المحصّن بسبب الاسم والموقع والمكانة، لا ريب أنّه سيعود ويتّصل بي غدًا، أو بعد غد.
علمت، عندما وقعت عيناي بالصدفة البحتة على مقال بقلم موسى إبراهيم أبو رياش في صحيفة القدس العربي، 13/ 12/ 2023، بعنوان صادم على شاعريته: “الشاعر سليم النفار: الشهيد الذي لم يهادن عتمة عابرة”. لا أستطيع أن أصف أيّ شعور بالأسى والغضب والخزي من الجنس البشري ومن العالم وأنا أقرؤه! أيّ شعور بالخجل من سليم ومن نفسي ومن الآخرين وأنا أقرأ التعليقات المتكررة على المنشور الذي كتبته عن استشهاده، مرفقًا صورته وصورة غلاف روايته “ليالي اللاذقية”: “منذر… استشهد سليم النفار مع عائلته وعائلة ابنه مصطفى وعائلة أخيه سلامة بتاريخ 7/ 12/ 2023 نتيجة قصف جوي إسرائيلي لم يسبقه إنذار، على المبنى الذي يقيمون فيه في حيّ النصر بقطاع غزة”.

2 ــ صوت جاءني من غزّة

بدأت صداقتي بسليم على فيسبوك، كصديق صفحة، ثم على واتساب كصديق خاص، منذ لا أكثر من أربع سنوات. في 22/ 6/ 2021 أرسل لي ملف روايته “فوانيس المخيم”. لينقطع بعدها حتى 1/ 9/ 2022، قبيل إصداره لروايته “ليالي اللاذقية”، وإرسال مخطوطتها لي لقراءتها ومعرفة رأيي فيها. ثم البحث عن صورة لمشهد ما في اللاذقية تصلح كغلاف لها، بعد أن بينت له أنّه لا يوجد من رسومي ما يناسب. وبعد ذلك في 22/ 10/ 2022، كتبت، بناء على طلبه، ما كان من المفترض أن يكون كلمة غلاف، إلّا أنّه طال وصار يصلح كمقدمة للرواية. وأخيرًا، إرسالي شهادة صوتية على فقرات، جمعها ابنه مصطفى الخبير في هذه التقنيات، وأذيعت في برنامج إذاعي محلي بمناسبة صدور الرواية! خلال هاتين السنتين، ربما لم يمض يوم يخلو من تبادلنا صباح الخير. من يعرف سليم يعرف صحة هذا! لم يمض أسبوع من دون اتصال: “كيفك، طمني عنك؟”، هو في غزة كان يقلق عليّ أنا في اللاذقية. وبعد التحية والاطمئنان على الصحة والأولاد، كانت تأتي أحاديث تطول ساعة وساعتين، نتحدث فيها، كل مرّة، عن كلّ شيء. ويا اللـه كم أوقعت به اللوم على أنّه لم يعرفني وهو يحيا في اللاذقية كلّ تلك السنوات من 1970 إلى 1993. وعلى أنّه لم يحمل نفسه ويأتي لعندي كي يتعرّف علي! وعلى أنّه عندما زار مكتبتي (فكر وفن) مرّات قليلة واشترى كتابًا أو كتابين، لم يعرّفني عن نفسه! وفي الوقت الذي لم أكن أقبل منه أيّ حجّة وأيّ عذر، كان يضحك ويقول لي: “الأيام جاية يا أبو شكيب، كن متأكّدًا أني سآتي إلى اللاذقية وأزورك”.

3 ــ أيّ ليال لياليك يا لاذقية؟
لأوّل مرّة أحار، كيف أكتب كلمة غلاف، لا تزيد عن سطور، لمجموعة شعرية، أو لرواية، مهما تكن. فلطالما من دون تلكؤ، أو صعوبة تذكر، كتبت عشرات الكلمات والمقدمات. ولكن هذه المرّة، هذا الكتاب، عن… عن اللاذقية… مدينتي! عن الأمكنة، الصليبة حارتي، العنابة، الطابيات، السكنتوري، الرمل الجنوبي، مارتقلا، الشيخ ضاهر، أمكنتي، الأمكنة التي دفعت ثمنها سنوات حياتي كلّها، وعن الناس، ناسي، الذين اخترت، أو قل وجدت نفسي، من دون أيّ رغبة بأيّ ادّعاء، لا أستطيع العيش إلّا معهم، ولأجلهم!
ربّما “ليالي اللاذقية” ليست أوّل رواية تجري أحداثها في اللاذقية، ربّما الثالثة، أو الرابعة، ربّما أكثر، غير أنّها، أوّل رواية تحمل اسمها. وهذا بالنسبة لي أمر يثير كثيرًا من المشاعر المتضاربة، منها، أنّه حصل وسبقني لهذا كاتب ما. ذلك لأنني تأخرت، على ما يبدو، كثيرًا. فعلى عادتي المتحكّمة بي كلّ التحكّم، أرجئ أيّ شيء، كلّ شيء، لا أدري لماذا؟ إلى لا أدري متى؟ حتى يفوت أوانه. وليس حرصي على كتابة مقدمة هذه الرواية، وربط اسمي بها، سوى رغبة بتعويض ما، بغفران ما، مهما بلغت ضآلته، على هذا الشعور بالتقصير والذنب. ولأنّه، بالرغم من كلّ هذا، إن كان من حقّ أحد أبناء اللاذقية، أن يكتب هذه المقدّمة، فأظن أنّي، وهذه المرّة بادّعاء حقيقي، واحد من اثنين، أو ثلاثة، على أكثر تقدير.

ولكنّ مشكلة النصّ الذي بين يديّ الآن أنّه أيضًا لا يكتفي بالانطباعات، ولا بالذكريات العاطفية، بل يغوص ويغرق في تفاصيل كلّ شيء. تفاصيل علاقة أبطاله المضطربة والمعقّدة، بكلّ ما يجري فوق السطح وتحت السطح على الأصعدة كافّة، الاجتماعي والثقافي والسياسي، بل خاصّة على الصعيد السياسي، الذي هو خطّ أحمر حاد، جارح، دام، بالنسبة للسوريين أنفسهم، فما بالك بمن سواهم، الذين، شاءت الأقدار، أن يحيوا معهم، بين ظهرانيهم. الفلسطينيون الذي كادوا يصدقون أنّ هذا المكان الذي نزحوا إليه منذ سنين طويلة هو وطنهم، فراحوا يشاركون أبناءه، أهواءهم ولواعجهم و… أحلامهم في حياة أفضل، ووطن أجمل، يخلو من الخوف والظلم والمهانات.
يسأل عماد أباه: “ما قيمة الإنسان إذا لم يكن صاحب موقف؟”. يجيبه الأب: “على الغريب أن يكون أديب”. إلّا أن كلمة غرباء تثير حفيظة الابن: “نحن لم نكن يومًا غرباء يا أبي… زوجتك أمي، أخوالي، أليسوا سوريين؟ أليسوا أهلنا؟”. سأجيبك أنا يا عماد. سأجيبك أنا يا سليم: “نعم السوريون، كما هم الأردنيون، والعراقيون، والكويتيون، واللبنانيون… ليسوا فقط محبّين للفلسطينيين، بل هم أهلهم وأخوتهم” تمامًا كما أنت قلت. ولكن ما إن يقرع ذلك الناقوس، ناقوس الاحتلالات، ناقوس الغزوات، ناقوس الحروب الأهلية وغير الأهلية، ناقوس الثورات اليتيمة والمغدورة والمستحيلة، حتّى تأتي الأنظمة العربية الخالدة، بجحافل جيوشها ومخابراتها وميليشياتها، التي لا تعرف الانتصارات إلّا على شعوبها، وتعمل عملها بتذكيرهم بأنّهم ليسوا أكثر من لاجئين، ولا حلّ يجدي معهم سوى الحلّ القديم المجرّب ذاته الذي يقومون فيه بطردهم، كما في أوّل وثاني وثالث مرّة، بدءًا من أرضهم، ثم من أيّ أرض حطّوا فيها. وكأنّهم ما ولدوا وما عاشوا وما تصاهروا وما أحبّوا وما أنجبوا أولادًا وما تجاوروا وما تآخوا وما صادقوا، بل وكأنّهم حتّى ما كانوا!

4 ــ شرط الحب
جاء سليم النفّار مع أبيه وأمه وأخوته إلى اللاذقية سنة 1970، طفلًا بعمر السبع سنوات، استشهد أبوه، في عملية مقاومة سنة 1973، ودفن في مقبرة الشيخ المغربي، لأنّه ليس هناك مقبرة خاصة للفلسطينيين في اللاذقية، قبورهم بجانب قبور أهلها لأنّهم من أهلها. تدرّج في مدارس المدينة، وشبّ في أحيائها وشوارعها ومقاهيها، وتخرّج في كلية الأدب العربي في جامعتها. ثم غادرها سنة 1993، زوجًا لسيدة فلسطينية من مواليد اللاذقية، وأبًا لطفل، وأيضًا شاعرًا ذا صوت ومكانة. بعد ذلك عاد إليها مرّتين، الأولى في سنة 2006، لزيارة أم زوجته في مرضها، والثانية سنة 2010. صدرت له أربع مجموعات شعرية. ثم جاء مع وفد من الكتّاب الفلسطينيين بعد 2011، فشاهد من خلال زيارتيه ما صارت إليه المدينة التي تلقّم وتعلّم كلّ ما يعرفه عن الشعر والحب والصداقة فيها، كيف تغيّرت وتحوّلت، حتّى كادت أن تنقلب إلى مدينة أخرى. لكن سليم النفار كان يعرفها كفاية ويحبّها كفاية، ليرى كلّ ملامحها الأثيرة المتوارية، ويسمع كلّ ما كان يصغي له بقلبه، ينبض عميقًا وقويًا، حتّى كأنّه يوشك أن ينفجر… “الروح لا تموت… الروح لا تتغير”، قال لي. عندها أجبته، بما أوصيت أن يكتب يومًا، لا أظنه بعيدًا، على شاهدة قبري، في مقبرة المغربي، المقبرة التي دفن فيها جدي وجدتي وأبي وأمّي، وما أردّده دائمًا كلما دار الحديث عن لاذقية خالدية، ولاذقيتي، ولاذقية رفعت ومرام، ولاذقية سليم، ولاذقية كلّ من عاش فيها وأحبها وبقي قلبه معلّقًا بها:

[شرط الحبّ
أن تحبّ وأنت تعلم
أنّ ما تحبّه يتغير ويتبدل
ويومًا
لا يعود هو هو
وخذنني أنا على سبيل المثال
سأحبّك وأنا تراب].

5 ــ مرافعة عن الحياة
لم أعرف بخبر استشهاد سليم وعائلته من مقال موسى أبو رياش في صحيفة القدس العربي فحسب، بل عرفت أيضًا لأوّل مرّة أنّ هنالك نصًا لسليم عنوانه: “مرافعة عن الحياة” يخاطبني فيه بالاسم، لم أستطع أن أعرف منه سوى ما ورد في ذلك المقال، وها أنذا أنقله بالطريقة التي أفضّلها:
[ضجرنا يا منذر من رداءتنا
ومن أحلامنا الكبيرة
فهل من متّسع صغير للحياة؟
الحياة البسيطة
كما عاشتها جدّاتنا في ساحل البلاد الممتدّ
بعض أشياء صغيرة
وكرامة لا يفتقدها الطامحون.

لا نريد دولًا يقودها الجنرالات العتيدة
قساة علينا
صغار في حضرة أربابهم].

تصوّروا أيّ جريمة لا تغتفر، ليس للكيان المغتصب فحسب، بل للعالم أجمع، أن يقتل الإنسان الذي يبحث عن متسع صغير للحياة البسيطة، يرافع مدافعًا عن الحياة المكتفية بالأحلام الصغيرة التي عاشتها جداتنا على الساحل الممتد من اللاذقية إلى طرطوس إلى طرابلس إلى بيروت إلى صيدا إلى عكا إلى حيفا إلى غزة. يؤكد صدق سليم وإيمانه بهذا الذي يقوله ما كتبه صديقه المتوكل طه في نهاية رثائه له: “كان يوصينا بألّا نموت، لكنّه تجرأ. ورحل! صادف رحيله يوم رحيل أمّنا فدوى طوقان”.

6 ــ في انتظار تلك المكالمة
ما زلت أرفض تصديق أن سليم النفّار قد ماتّ! وأظنّ هذا شيئًا يشعر به ويقوله كلّ من فقد عزيزًا، إلّا أنّه، الآن، منذ لحظات، وأنا غارق في ذكرياتي مع سليم، وفي محاولتي استعادة كلّ تفاصيل صداقتي معه، فاجأني رنين جرس هاتفي النقّال، الملقى على يسار لوحة مفاتيح جهاز الكومبيوتر الذي أكتب عليه، وللحظة لمحت اسم سليم النفّار على واجهته، مددت يدي وأنا متأكّد أنّي بعد قليل سأسمع صوت سليم ذاته، بلهجته الفلسطينية ذاتها، النقية من آثار كلّ هجرة ونزوح في حياته، سأسمعه وهو يقول: “منذر أنا في اللاذقية، وصلنا أنا وأم مصطفى البارحة، لم يكن في استطاعتي أن أخبرك مسبقًا، أجلس الآن مع بعض الأصدقاء في مقهى الحكيم في الشيخ ضاهر. تعال بأسرع ما تستطيع… ننتظرك”. حتّى أنّه لم يقل شيئًا عن خبر استشهاده، وكأنّه لم يسمع به!

(اللاذقية 10/2/2024)