عندما ذهبت للمشاركة في التظاهرة التي ستخترق شوارع مدينة مدريد يوم 27 يناير/ كانون الثاني الفائت، قصد التنديد بجرائم الإبادة الجماعية، التي تقوم بها إسرائيل في غزة، لم أكن أتصوّر أنني سأجد أن بعض المشاركين فيها يحملون لافتة كبرى عليها صورة حنظلة بالشكل الرمزي الذي جَسَّمه ناجي العلي (1937 ـ 1987) في رسومه الكاريكاتورية، ليجعله بمثابة توقيع لأعماله، ويمنحه في الآن نفسه صفة الضمير المتحدث باسم ثورة التحرير الفلسطينية… وقفت أمام اللافتة متأملًا فوجدت نفسي أمامه، فقلت ماذا عساه أن يقول اليوم أمام هول ما يحدث في غزة، بعد أن تفاعل طيلة عمره مع مختلف الممرات الوعرة التي مرت بها القضية الفلسطينية؟
كان حنظلة بحسه النقدي الجذري قد علمنا أن كلمة أو جُمْلَة في حركة مُجَسَّمَة في شكل، أو موقف، أو حكاية، تكفي لبلورة موقف، جملة واحدة تنطق بالبيان الكاشف، والعبارة فيها لا تحتاج إلى شرح أو تبسيط… ابتسمت وأنا أحملق في الصورة مَحمولةً أمام جمع من المتظاهرين في الصفوف الأمامية، ثم واصلت السير وسط الجموع الغاضبة إلى أن وقعت عيني عليه وسط المتظاهرين، كنت قد رأيته قبل حين مجسمًا بالشكل الذي رسمه ناجي، إلا أنني الآن أراه حيًا في صورة أخرى، إنني أشاهده الآن وقد كَبُرَ، أشاهده عائدًا ليشارك معنا في عملية التظاهر والتنديد بجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، التي تقوم بها إسرائيل بدعم أميركي غربي مُعلنين، جرائم إبادة تتم عن طريق القتل والحرق والتهديم، وتتواصل بقطع الماء والغاز والكهرباء، وهدم البنيات التحتيّة وإغلاق الحدود، وتشجيع من تبقّى من الفلسطينيين على النزوح والهجرة، وبصورة تتضمن كثيرًا من مظاهر الانتقام المجنون… والذين تابعوا الأشهر الأربعة التي توالت بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يعرفون صور الجرائم التي عرفتها مدن وقرى ومخيمات غزة، بعد ما يقرب من عقدين من الحصار الذي عزل القطاع بكثير من العنف عن جغرافيته وتاريخه، وساهم في ترتيب كثير من الملامح التي أصبحت مرتبطة به.

اقتربت من حنظلة وهو يمشي وسط المتظاهرين، ومثلما أنني كنت أعرف صورة الطفل حنظلة، لم أشك لحظة واحدة في كون الشخص الثاني الذي رأيت هو حنظلة، وقد تغيرت بعض ملامحه تحت تأثير فعل ومفعول الزمن… إنني الآن أمام حنظلة وقد بلغ سن الخامسة والخمسين، إنه أمامي اليوم ليس في بيروت ولا في الكويت ولا في لندن، وكان يعرف كل هذه المدن، بعد أن طُرد وهجّر من وطنه. ولم أشاهده في المظاهرات التي تمت في عمان وفي الرباط وتونس، ولا أعرف هل شارك في مظاهرات نيويورك وبروكسل وباريس أم لا؟ إنه اليوم أمامي في مظاهرة مدريد، ليس في صورة طفل مخيم عين الحلوة، بل في صورة الفلسطيني الذي قهرته تحولات الزمن، وتحولات قضيته ومصيره… يقف حنظلة أمامي وقد تحولت ملامح طفولته إلى ملامح بمواصفات تحمل علامات تجربته في النضال، وفي مواجهة كل ما اعترض طريقه في المقاومة والتحرير، طيلة العقود الخمسة المنصرمة… يعرف الجميع غموض الطلقة النارية التي تعرض لها، كما يعرفون خياراته في السياسة والفن، وكذا خياراته في الحياة، وهي خيارات منحته إمكانية مواصلة الحياة معنا، والمشاركة في المظاهرات المُندّدة بالكيان الصهيوني وحلفائه، والمندّدة أيضًا بالمطبّعين…
أحسست أنه يحمل اليوم كثيرًا من علامات النضج، يتكلم بهدوء ويذكرني بأن القضية الفلسطينية دخلت في السنوات الأخيرة منعطفًا حاسمًا، وأن طوفان الأقصى منحها المخرج المناسب، رغم كل المآسي والآلام التي يعاني منها الفلسطينيون… ثم تابع قائلًا: تتطلب المعركة اليوم، الوعي بأهمية التحولات الجديدة الجارية في العالم، إنها تدعونا إلى وحدة المتعدد، كما تدعونا إلى كثير من اليقظة في موضوع الموقف من الغرب، فبعض أنظمته ونُخَبِه تستعيد سردية الصهاينة، وبعض نخبه ومُدنه أيضًا، لا تتردد في عمليات السماح بالمظاهرات المندّدة بمظالمه وعدوانيته… وعلينا أن نتخلص من نمط التفكير الذي يبني الثنائيات المغلقة والمطلقة.

صارت لوحة حنظلة الضمير المتحدث باسم ثورة التحرير الفلسطينية (Getty)

كان ينطق بكلمات تشبه الكلمات التي اعتاد وضعها بجوار رسومه، يستخدمها باختزال، وبكثير من الكثافة والبساطة المُقْنِعة… لم تخل نبرة حديثه من الغيض، كانت كلماته كما عهدتها في رسومه بليغة، تذكرت لقاءه الأول سنة 1960 بغسان كنفاني (1936 ـ 1972)، الذي نقل رسومه لأول مرة سنة 1961 من مخيم عين الحلوة إلى مجلة الحرية. وقد ساهم هذا الأمر في انخراطه في دروب المقاومة ودروب النقد السياسي الوضعي والتاريخي، وحديثه اليوم أمامي ومعي عن الغرب يندرج ضمن هذا السياق… إن الجامع بين فصائل المقاومة في تاريخ النضال الفلسطيني من أجل التحرير، يتمثل في المشروع السياسي الوطني، أي مشروع التحرير.
ينتقد حنظلة الغرب الاستعماري، ويشارك مع الغرب المتحرر في مظاهرات الاستنكار والتنديد بعدوانيته وإسناده للمشروع الصهيوني… إنه يرفض النظر إلى الغرب باعتباره مجرد امتداد للنزوع الاستعماري الإمبريالي، ولا يقبل أن توضع كلمة غرب اليوم أمام الإسلام، فالغرب اليوم جغرافية وتاريخ وعقائد وسياسات ومصالح، والإسلام عقيدة وتاريخ… وهو يحمل إضافة إلى ما أشرنا إليه، جملة من الفضائل التي تمنحه صفة التعدد والتنوع، ومزايا الغرب الكبرى في المعرفة والفن لم تصنعها أنظمته السياسية، إنها إنتاج مركّب ويحمل في قلبه كثيرًا من القيم النبيلة والمشتركة.

يخاطبني مبتسمًا ومتفائلًا، ثم يدعوني إلى مواصلة البحث عن المخارج المناسبة للسياقات التاريخية الجديدة، التي تسمح اليوم بمواصلة التفكير في بناء طريق المقاومة، ويشير إلى أن العدوان الذي تمارسه إسرائيل مع حلفائها على الفلسطينيين في غزة، يؤشر على معركة مفتوحة وهو يدعونا إلى توسيع دوائر الانخراط فيها، بحكم أنها تتيح لنا في ضوء المتغيرات المواكبة لها، أن نغادر مرحلة التراجع الحاصلة ومرحلة الجمود، التي أوصلنا إليها اتفاق أوسلو وحكاية السلام، وكذا حكايات قيام دولتين فوق الأرض الفلسطينية.
توقف قليلًا ثم واصل كلامه في موضوع ما أصبح يعرف في الإعلام بـ”اليوم التالي”، حيث تواصل إسرائيل حديثها عن الاقتلاع والاجتثاث والإبادة، وتُواصل الولايات المتحدة الأميركية والغرب، تبشيرَ العالم بالسيناريوهات المحتملة لنمط علاقاتهما بالمحيط العربي والقِوى الإقليمية المتواطئة معه، والحديث أحيانًا عن مشروع الدولتين… كان غاضبًا وهو ينطق بمشروع الدولتين. ثم توقف ثانية عن الحديث، وأخبرني بأن مشروع اليوم التالي هو مشروع التحرير، وأن هذا الأخير يتطلب اليوم وليس غدًا، وحدة فصائل ومكوّنات المجتمع الفلسطيني، فقد آن أوان الوحدة الوطنية مجددًا، الوحدة التي تقبل الاختلاف والتعدّد ويجمعها المشروع الوطني الفلسطيني…
بدأ صوته ينخفض، وكانت أصوات المتظاهرين ترتفع… ازداد عدد المتظاهرين وتنوعت أصواتهم، كما تنوعت لغات الشعارات التي كانوا يرددونها طيلة حركة سيرهم المنتظم والمنظم، وسط شوارع مدينة مدريد الواسعة والمزينة، بإيقاع أصوات حركة المُنَدّدين بجرائم الحرب الصهيونية في فلسطين… شعرت بسعادته متحدثًا، كما شعرت بخوفه من مكر السياسة والتاريخ. وبدا لي أنه يؤمن بأن موعد الفلسطينيين مع التاريخ يقترب… فقلت في نفسي، يلزمني أن أستغل فرصة لقائي به وأسأله عن رسومه الجديدة، التي تغطي حقبة غيابه القسري، طيلة ما يزيد عن ثلاثة عقود، بكل ما لحق مشروع التحرير الفلسطيني فيها من تراجع وخذلان، فطرحت عليه السؤال، وأنا ألاحظ الابتسامة التي ملأت محياه وهو يستمع إلى سؤالي… وخاطبني بصمت قائلًا: أنا هنا الآن معك أجسم الرسوم في الفعل السياسي المنخرط في لحظة من أقوى لحظات المقاومة الباسلة… انقطع الصمت، ثم غابت ملامحه وسط جموع المتظاهرين، وكانت التظاهرة أمام محطة النهاية. فبدأت أبحث عنه وسط من تبقّى من المتظاهرين الذين يحملون صورته.