يفغيني زامياتين، كاتب روسي – سوفياتي، ناقد أدبي، كاتب سيناريو، ومهندس متخصص في بناء السفن، اشتراكي العقيدة. كتب قصص الخيال العلمي، والقصص السياسية الساخرة، والقصص التاريخية، لكنه مناهض للطوباوية.
عاد زامياتين عام 1917 من بريطانيا إلى روسيا بعد اندلاع ثورة أكتوبر، التي عقد عليها كثيرًا من الآمال. غير أنّ الأحداث التي أعقبت ثورة عام 1917 أضفت على مؤلفاته مسحةً قاتمة جراء الممارسات التي مارستها السلطة. نشر زامياتين عام 1918 سلسلةً كاملة من القصص والحكايات، والقصص القصيرة: “الشمال”، “مسّاح الأرض”، “صائد البشر”، “التنين”، “آل إيفان”، و”الألِف النارية”.
في السنوات الأولى التي تلت الثورة، كتب زامياتين عددًا من المقالات حاول فيها تحليل بعض أنشطة البلاشفة، مثل الرقابة، الإرهاب الأحمر، عقوبة الإعدام في روسيا، وغيرها. وعلى الرغم من أنّه بقي اشتراكيًا، فإنّ زامياتين لم يتوقف عن انتقاد ممارسات الحكومة البلشفية خلال الحرب الأهلية، إلى أن اعتقل مع عدد من مشاهير الفن والأدب على خلفية الأحداث التي أثارها اليساريون في معامل سان بطرسبرغ في آذار/ مارس عام 1919. بعد تدخل بعضٍ من الشخصيات الأدبية البارزة، أطلقت السلطات سراحه. وفي عام 1920، أنهى زامياتين روايته الأشهرعلى الإطلاق “نحن”، التي رسمت ملامح مساره كمناهضٍ للطوباوية. في روايته تلك، وصّف زامياتين الرقابة الصارمة التي يفرضها المجتمع الشمولي القاسي على الفرد، ووضع تصوراته عن التطور، وعن مرحلة الشيوعية الحربية القادمة. لم يستطع زامياتين نشر روايته في روسيا الجديدة، فأقدم على تهريب المسودة خارج البلاد، لتبصر النور عام 1925 في نيويورك باللغة الإنكليزية، قبل أن تترجم لاحقًا إلى التشيكية والفرنسية.
في رواية “نحن”، تدور الأحداث في المستقبل في دولةٍ بوليسية فاسدة، تحمل جميع الشخصيات أرقامًا وليس أسماء. بدهشةٍ كبيرة، يصف أحد شخصياتها الذي يحمل الرقم (D – 503) طريقة تنظيم الحياة في الدولة التي بنيت بناءً على حسابات رياضية، وفي المدينة ـ الدولة الخاضعة لسلطة “الحامي العطوف، كلّي القدرة”. لم يخطر في بال (D – 503) أنّ الحياة ممكنة بطريقةٍ مختلفة: “حياةٌ من دون أسوارٍ، ومن دون شقق جدرانها زجاجية”، حياةٌ ليست فيها “صحيفة حكومية”، وليس فيها “مكتب الحُماة”، ولا “الحامي العطوف”. بعد لقائه الرقم (I-1300)، ينتسب (D -503) إلى مجموعةٍ ثورية تدعو للثورة حتى القضاء نهائيًا على النظام الفاسد القائم في المدينة ـ الدولة. يعتقد كثير من الكتاب والنقاد أنّ رواية “نحن” ألهمت عددًا من الأدباء المناهضين للطوباوية. على سبيل المثال: ألهمت رواية زامياتن الكاتب ألدوس هاكسلي لكتابة روايته “يا له من عالم جديد شجاع” عام 1932، وكذلك كانت الحال مع قصّة “السلام الوطني” للروائية آبن رند، ورواية جورج أورويل “1984” عام 1949، ورواية “البيانو الذي يعزف بنفسه” لكورت فونيغيت عام 1952، ورواية “المحرومون” لأورسولا لي غوين عام 1974. في عام 1994، منحت رواية زامياتين “نحن” جائزة بروميثيوس (Prometheus Award) بعد أن وضعتها جمعية كتاب الخيال العلمي التحرريين على قائمة أكثر الكتب شهرة في “صالة المشاهير”.

رسالة في المستقبل
في مقالة له عام 1921 تحت عنوان “أنا أخشى”، كتب زامياتين: “الأمر المهمّ أنّ الأدب الأصيل لا يمكن أن يأتي على أيدي مسؤولين تنفيذيين مرفهين، بل يكون هناك، حيث يكثر الكتّاب المنشقون، المجانين، والهراطقة الملاحدة، والمتمردون الحالمون، والمتشككون”. وهذا ينطبق تمامًا على زامياتين، الذي كان يفضل أن يقال عنه إنه مهرطق، حسب ما صرّح به في مقالةٍ بعنوان “أحاديث مهرطق” في تسعينيات القرن التاسع عشر. ولا عجب في ذلك، فقد ولد الكاتب وترعرع في بلدة ليبيديان (في مقاطعة تومبوفا) في عمق روسيا، تلك البلدة التي عرفت بأسواقها الشعبية، وبالغجر الذين اتخذوها نقطة انطلاق لرحلاتهم، وبالمشعوذين. تلك البلدة الفريدة، التي كتب عنها تورغينيف وتولستوي، واشتهر فيها رجل الدين الذي كتب بحثًا مستفيضًا عن حياة الشياطين اليومية، كما اشتهرت بمدير مكتب البريد الذي علّم الجميع لغة (السبيرانتو) التي آمن جازمًا بأنّها لغة سكان كوكب الزهرة.

في ظلّ حكم القياصرة، كان زامياتين يعد مهرطقًا، وكيف لا وهو الذي ساعد البلاشفة، وقضى سنوات عدة في منافي الحكم القيصري. يتذكر زامياتين في سيرته الذاتية (1928): “في تلك الأيام، أن تكون بلشفيًا يعني أن تسير على طريق المقاومة القصوى، وأنا كنت بلشفيًا”. ولكن زامياتين الذي عاد إلى روسيا عام 1917، عبّر حينها عن المشاعر التي غمرت روحه: “شعرت بشعور شخصٍ لم يسبق له أن وقع في الحبّ، ولكنّه وجد نفسه فجأة متزوجًا منذ عشر سنين، أو قرابة ذلك”. اعتبر زامياتين السلطة الجديدة “سلطته”، ولكنّه وجد نفسه فجأةً في صفوف معارضيها بعد أن رأى بجلاء أن أعداء النظام القديم ليسوا سوى ورثته، ويسيرون على خطاه. لم يخف زامياتين موقفه من السلطة الجديدة، التي لم يتأخّر ردها بعد روايته “سكّان الجزيرة”، التي كتبها بالإنكليزية، وقال فيها: في إنكلترا بنيت السفن، وفيها شاهدت آثار القلاع، وفيها سمعت انفجارات القنابل التي ألقتها المناطيد الألمانية، وفيها كتبت روايتي. جاء الردّ على لسان أحد كبار قادة السلطة الجديدة، الذي كتب: “في نهاية الأمر، كاتب القصة نفسه هو أحد سكان تلك الجزيرة الصغيرة. ولا أدري إن كان زامياتين يكتب عن الروس في لندن، أم عن الإنكليز في سان بطرسبورغ، ولذلك أرى أنّه يبقى ولا شكّ مهاجرًا في الداخل”.
قضى زامياتين خمسة عشر عامًا في ظلّ السلطة الجديدة يهرطق، يفكّر ويؤلّف، ويشهد الحملات الأيديولوجية في روسيا الجديدة. ولكنّه بعد كلّ هذا الوقت، لم يعد يحتمل أكثر الصمت على الحملة الشعواء التي شنّت ضدّه، فكتب رسالةً إلى ستالين والحكومة جاء فيها: “إنّ خصوصية عملي الأدبي ككاتب ساخر، وربما عجزي عن تصوير الشخصيات الإيجابية في أعمالي، هي واحدة من أسباب هذا الموقف الذي اتخذته السلطات تجاهي. من الواضح تمامًا أنّ بقائي هنا، في ظلّ هذه الظروف، يعني موتي أدبيًا ككاتب، ويعني أنّ عليّ الصمت. أعتقد أنني لا أستحق أن يحكم عليّ بالموت (أدبيًا)، خاصّةً أنّ ماضيّ فيه ما يكفي من الشواهد التي تبرّر تخفيف هذا الحكم القاسي. ولهذا أتوجه إليكم مرةً أُخرى برجاءٍ ملحّ: السماح لي ولزوجتي بمغادرة البلاد لمدة عام”. جاءت الموافقة، وغادر زامياتين البلاد ليستقر في باريس، التي عاش ومات فيها، ليدفن في إحدى مقابرها، بعد مراسم دفنٍ متواضعة حضرها بعض الأصدقاء. خلال وجوده خارج البلاد، احتفظ زامياتين بجواز سفره السوفياتي، وكان يتجنّب الإدلاء بانتقاداتٍ حادّة بحق السلطة السوفياتية، حتى أنّه شارك عام 1935 كعضوٍ في الوفد السوفياتي إلى مؤتمر الكتاب للدفاع عن الأدب.
من الناحية الأدبية، لم يكن زامياتين إنكليزيًا من (ليبيديان)، ولكنّه كان مهرطقًا عقلانيًا، كاتبًا مرّ بمحطاتٍ عدة. كان زامياتين كاتبًا واقعيًا مجددًا في قصته “حكاية إقليمية” عام 1913، التي كانت بداية شهرته، والتي انتقد فيها الحياة في بلدةٍ روسية صغيرة. وكذلك كان في قصّته “نهاية العالم” التي حوكم بسببها في العام التالي بتهمة الافتراء على الجيش الإمبراطوري. بالإضافة إلى ذلك، كان زامياتين رمزيًا في قصّة “المغاور” (1922)، وقاصّا واعظًا في مجموعة “حكايات للأطفال الكبار” (1922)، وأصبح أخيرًا كاتبًا حداثيًا في قصّة “الطوفان” (1929). علاوةّ على كلّ ما سبق، ألّف عددًا من المسرحيات، وكتب قرابة عشرين سيناريو، وترك مجلّدًا كاملًا يتضمن مقالاتٍ في النقد الأدبي.
في أحد مقالاته، تساءل زامياتين: “ما الدور الاجتماعي الذي يتوجب على الكاتب أن يؤديه”؟، وأجاب على السؤال بالقول: “من الناحية المثالية، يجب أن يكون الكاتب نبيًّا يتنبأ بالمستقبل. مهمة النبي هي النضال في سبيل الغد، الغد الأبدي. فاليوم، لا يرضي، ولا يجوز أن يرضي، الأنبياء. ويجب أن يكون موقفهم سلبيًا من اليوم الحاضر، لأنّ المقاربة السلبية للحاضر هي بمثابة عهد للتحرك الدائم والأبدي إلى الأمام”. في هذا الإطار، جاءت رواية زامياتين “نحن”، وأصبحت نبوءة ونموذجًا في مواجهة الطوباوية، وأحد أكثر الأساليب الأدبية رعبًا في القرن العشرين. في إحدى مقابلاته، قال زامياتين عن هذه الرواية التي كانت أوّل عملٍ أدبيّ تمنع الرقابة السوفياتية نشره: “الرواية ليست بيانًا سياسيًا، بل إنذار بالخطر القادم الذي تمثّله سلطة الآلات وسلطة الحكومات البوليسية، ذلك الخطر الذي يهدّد الإنسان والبشرية”.
بالطبع، لم تتحقق نبوءات زامياتين عن العالم الشمولي، ولا عن مدينة الشمس، ولا عن سلطة الآلات والحكومات البوليسية. ومع ذلك، تبقى الفكرة الختامية المفاجئة على لسان بطل الرواية: “اسمع، نكزت جاري: يجب عليك أن تجيب على سؤالي: أين ينتهي كونكم المحدود؟ ماذا بعده؟ إنّه السؤال الأبدي في الهرطقة”.