قبل خمسة وثلاثين عاماً نشرت المجلة البريطانية Woman’s Own مقابلة مع رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، التي كانت تتولّى السلطة منذ عام 1979، قالت فيها: “أعتقد أننا مررنا بفترة سمحنا فيها لعدد كبير جداً من الأشخاص أن يقولوا: “أنا أواجه صعوبة، والأمر متروك للحكومة للقيام بما هو ضروري!، أواجه صعوبة، سأطلب منحة لتجاوزها!، أنا أعيش في الشارع، والأمر متروك للحكومة لإيجاد سكن لي!. وهكذا، فإنّ هؤلاء الناس يلقون اللوم في مشاكلهم على المجتمع. ولكن من هو المجتمع؟ إنّه غير موجود! هناك رجال ونساء، وهناك عائلات، ولا شيء غير ذلك”.
صار ذلك النفي للمجتمع من أشهر مقولات تاتشر، وأحد شعارات النيوليبرالية، العقيدة الاقتصادية التي سيطرت على العالم منذ ثمانينات القرن الماضي.
في كتابها الجديد، الذي نُشر مؤخّراً في إيطاليا “المجتمع الموجود”، تنطلق الباحثة في الفلسفة السياسية في قسم علم الاجتماع والبحوث الاجتماعية في جامعة ميلانو جورجيا سيروغيتي، من طرح تاتشر النافي للمجتمع، بوصفه طرحاً يعبّر عن رؤية متكاملة، لتصل نحو دحضه. تبدأ الفكرة الأولية للكتاب من اقتباس لرئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون، الذي أعلنه بعد عزله بسبب الوباء: “أعتقد أنّ كوفيد قد علّمنا شيئاً واحداً: المجتمع موجود”. يعبّر الرجل عن تحوّل جذري من جانب قطاع أساسي من النخبة السياسية النيوليبرالية، حيث كان جونسون أحد زعمائها، أي زعيماً محافظاً، وأحد ورثة تقاليد تاتشر النيوليبرالية المفترضة في مسائل السياسة الاقتصادية والاجتماعية. بدايةً يقدّم الكتاب تاريخاً موجزاً للإيديولوجيا التي أنكرت وجود المجتمع وهي “النيوليبرالية”، من خلال السياقات التي ولدت فيها.
تذهب الكاتبة إلى أنّ اعتبار الأسرة وحدة اجتماعية متفوقة على الفرد، والوطن أسرة كبيرة لا تكون أكثر من تجمّع لعائلات وأفراد تربطهم انتماءات، هو منظور خاص باليمين الوطني المحافظ. لكنها لا تعني بـ”إنكار المجتمع” رفض الاعتراف بأنّ الأفراد يحتفظون بعلاقات مع بعضهم البعض -فمثل هذا المفهوم للمجتمع كان في الواقع يتماشى تماماً مع فكرة السوق التي تنظّم التفاعلات الإنسانية والمدنية. بل إنّ “إنكار المجتمع” يشير بالأحرى إلى رفض فكرة المسؤولية الجماعية في مواجهة العلل والمظالم الاجتماعية.
فالمسؤولية المبنية على شبكة من الاعتمادات الشخصية المتبادلة، أكثر أهمية من التفاعلات البسيطة، وأكثر إلزاماً من الارتباطات التعاقدية البسيطة في السوق. وأشارت الكاتبة إلى شكل من أشكال الاعتماد المتبادل الذي يفلت حتى من السيطرة الكاملة للأفراد، حيث يتمّ بناء كل فرد داخل المجتمع، ويولد في نظام من العلاقات والترابط وتبعيات الأفراد على البنى التحتية الاجتماعية التي تصاحب الحياة وتدعمها.
وتعتقد سيروغيتي أنّ إنكار المسؤولية الجماعية هو خطوة جدلية أساسية لليبرالية الجديدة. لكن البعد الأكثر أهميةً هو إنكار حقيقة وجود علاقات قوة داخل الهياكل التي تمرّ عبر المجتمع، وهي ليست فقط علاقات السلطة الحكومية التي تُمارس من الأعلى إلى الأسفل، ولكنها أيضاً إرث من النظام الأبوي، والعنصرية، وبالطبع الانقسامات الطبقية. فاقتراح رؤية الأمة كأسرة ممتدة، بدلاً من هذه الرؤية المفصلة للمجتمع، والذي هو أيضاً مكان للصراع والتعاون، يعني في الأساس اقتراح علاقة قرابة بين متساوين بروابط النسب البيولوجية -حيث لن يكون للصراعات، على سبيل المثال بين القمة والقاع، وبين الطبقات، أهمية، أو، على أية حال، لم تعد لها شرعية. وهذا أمر بالغ الأهمية لتحليل وفهم الطروحات السياسية لليمين، لفهم سبب محافظته في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وليس فقط في مسائل القيم، خلافاً للاعتقاد السائد.
في مستوى ثانٍ، تحلّل الكاتبة النتائج الناجمة عن إنكار فكرة المجتمع، والكسور التي أحدثها إلغاء هذه الفكرة. عند هذه النقطة هناك ملاحظتان تطرحهما سيروغيتي: أولاً، التخلّي عن فكرة المجتمع -تضخيم الفردية -يتزامن موقتاً مع تراجع اليسار. فاليسار يتراجع، في حين يجد اليمين تأكيدات انتخابية حتى في تعبيراته الأكثر راديكالية، كالأحزاب والشخصيات الشعبوية. فيما يتراجع قطاع ثانٍ من اليسار بسبب سقوطه في إغواء بعض افتراضات النيوليبرالية.
ثانياً، ما يتعلق بأزمة الأيديولوجيا التي تنكر المجتمع، أي أزمة الليبرالية الجديدة. فقد شكّل الوباء الحقيقة الكاشفة لهذه الأزمة. ولكن أيضاً بعض التحولات في المعجم، وبعضها إعادة التفكير، وطرح الأسئلة الذاتية، هي تعبير عن هذه الأزمة. وكيف أنّ الإجماع الذي دعم لعقود من الزمن الفرضية القائلة إنّ السوق كان أفضل منظّم للعلاقات بين الأفراد، وبين الدول والمواطنين، وحتى بين الدول والقوى الاقتصادية، أصبح في تراجع. ولا يتمّ الشعور بذلك فقط في حركات الاحتجاج الاجتماعي، ولكن أيضاً في مساحات النقاش والمعرفة وصنع القرار.
بين الاقتصاديين، وحتى أولئك الملتزمين الدفاع عن رأسمالية القرن الحادي والعشرين، نشعر بالحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الدولة والسوق. كما أصبح الحديث عن “عودة الدولة” مباحاً وقوياً، ومعبّراً عن تغيير، وعن حقبة إيديولوجية جديدة تصل فيها هيمنة الخطاب النيوليبرالي إلى مرحلتها النهائية، أو على الأقل تبدأ في التذبذب بشكل واضح للغاية.
المساهمة الثالثة والأخيرة للكتاب هي إثبات وجود المجتمع – كما تفترضه الكاتبة بما هو المسؤولية الجماعية – من خلال دراسة الواقع السياسي الذي أوجده الوباء. خلال الجائحة، شهدنا إعادة بناء رابطة الثقة الاجتماعية بين المواطنين والمؤسسات، وهو ما كشفت عنه استطلاعات الرأي. وكان هذا هو الحال حتى في بلد مثل إيطاليا، حيث تزايد انعدام الثقة لسنوات عديدة تجاه المؤسسات كافة، مع استثناءات قليلة. حدث ذلك لأنّ الدولة اهتمت بحياة الناس -بالتأكيد، في بعض الأحيان بسمات أبوية، ولكن بالتأكيد مع القدرة على إثبات أهمية وضرورة التدخّل العام حيث لا يمكن للسوق أن تعمل. فالسوق غير قادر على التعامل مع هذا النوع من التهديد للصحة العامة. وللحظة، ربما يتصور المرء أنّ هذا المنطق نفسه، بمجرد تسليط الضوء عليه من خلال الوباء، يمكن أن ينطبق على كل الأزمات الكبرى ــ وحتى على المواقف الأطول أمداً ــ حيث سيكون التدخّل العام ضرورياً لسدّ الفجوات وأوجه عدم المساواة القائمة.
ويستجيب هذا التدخّل بشكل فعّال لاحتياجات السكان للبقاء على قيد الحياة، والتي لا ترتبط أبداً بالصحة فحسب، بل أيضاً، بطبيعة الحال، بالدخل والحصول على الخدمات الجيدة والتعليم. وهنا تطرح الكاتبة مسألة “التقاطعية”، كحلّ للعزلة الفردية والفئوية، وكذلك كإثبات على جدارة المجتمع بالوجود، والتي تعني تقاطع مطالب واحتجاجات العمال والنساء والمهاجرين ونشطاء البيئة ضمن جهد احتجاجي وبنائي موحّد، فهي العدسة التي تسمح لنا برؤية كيف تتشابك أنظمة القمع المختلفة وأشكال عدم المساواة المختلفة. ومن الناحية المثالية، هذا هو المنظور الذي يمكن اعتماده في تصميم وتخطيط أي سياسة عامة.
في هذا المنعطف العالمي، أدّى بناء المفهوم النيوليبرالي للأفراد المستقلين والمعزولين والمتنافسين إلى أزمة مسألة المواطنة القائمة على الحقوق الأساسية، ونزع شرعية الرفاهية، وهدم المجتمع. ولم يؤد ذلك إلى تخفيف روابط التضامن فحسب، بل أدّى أيضاً إلى ظاهرة انفصال النخب عن جسد المجتمع، وعدم المساواة الطبقية والتسلسل الهرمي بين الجنسين والعرق، وأزمة التمثيل، وتجزئة الهويات السياسية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من مقولات تاتشر التي جاءت في زمن النشوة بالانتصار النهائي للرأسمالية، هناك دائمًا شيء أكبر من الأفراد: “الكل الاجتماعي” كفضاء للصراعات الجماعية التي يجب مواجهتها وممارسات التضامن حولها، وهو الفضاء الذي يمكن تشكيله من خلال السياسة. لذلك يرسم هذا الكتاب الرؤى التي تحرّك أشكال النشاط النقابي والبيئي والنسائي الجديدة، القادرة على توحيد الدفاع عن العمل والمناخ، والنضال من أجل الدخل والحقوق المدنية، والمعارك ضدّ التمييز بين الجنسين وضدّ العنف العنصري.