أفرزت المركزية الأوروبية، التي تستظل بالتفوق الأميركي وتتماهى معه، الكثير من الظواهر التي كانت ولا زالت تحاكي واقعها من الداخل، إلا أنها تقدم نفسها وكأنها بالضرورة ظواهر عالمية خالصة. علماً أن أكثر من ثلاثة أرباع العالم لا علاقة لها بهذه الظواهر التي يمكن تسميتها، حسب المصطلح الدارج، على أنها غربية قلباً وقالباً. وقد ساهمت العولمة وتقدم التقنيات التكنولوجية في العالم إلى تعميق هذه الفكرة التي تكاد أن تصبح بديهيات غير قابلة للنقاش. سأسعى اليوم إلى التوقف عند أكثر تلك الظواهر إشكالية وهي ظاهرة الأدب العالمي. هذا الأدب الذي يكاد يكون غربياً خالصاً، أو أدباً يتم تبنيه من قبل مؤسسات تستند إلى المركزية الأوربية ويتم فلترته في الغرب ليتم تصديره هنا وهناك على أنه أدب عالمي. ويظل الكاتب غير الغربي بانتظار مفاجأة أو ضربة حظ تأتيه من إحدى المؤسسات أو إحدى دور النشر الكبيرة التي تدور في فلك المركزية الأوروبية وتجسد تلك النزعة في خططها العملية المتعلقة بتبني “أبناء البطة السوداء” من الكتاب الذين يكتبون على امتداد العالم بلغات غير أوروبية.
هل لازال مصطلح الأدب العالمي مخلصاً لبدايات ظهوره؟
تقول المصادر بأن أول من استخدم هذا المصطلح هو الشاعر الألماني كريستوف مارتين فيلاند (1733-1813)، وقد صاغ غوته هذا المصطلح في مجلته “عن الفن والعصور القديمة” بدءاً من عام 1827، مما أعطاه معنى لا يزال جزءاً أساسياً من المصطلح حتى اليوم. وكان يعني هذا له أدب الفرنسيين والإيطاليين والألمان والإنجليز والاسكتلنديين، وبكلمة أخرى الأدب الغربي. هكذا ولد هذا المصطلح واستمر مختزلاً العالم في قارة واحدة أو قارتين، بحيث يكون الكاتب الغربي الناجح عالمياً بالضرورة. في حين يكون مفتاح الدخول إلى جنة الأدب العالمي للكاتب غير الغربي إما الكتابة بإحدى اللغات الأوربية أو ترجمة أعماله إلى تلك اللغات الأوربية. ما عدا ذلك يكاد يكون الأمر مستحيلاً.
نظرة سريعة إلى جائزة نوبل للأدب
لعل التجسيد الأكثر وضوحاً لما ذهبنا إليه أعلاه هو الطغيان شبه التام للأسماء واللغات الأوروبية على قائمة الأسماء الفائزة بجائزة الأدب الأشهر في العالم. نشأت الجائزة في العام 1901، وباستثناء بعض سنوات الحربين العالميتين، فقد تم توزيع الجائزة بشكل سنوي منذ ذلك الوقت. حصل على الجائزة التي تضاهي تسعمائة وسبعين ألف يورو حتى الآن مائة وتسعة عشر كاتباً وكاتبة. حيث حصل كتاب اللغات الثلاثة الإنكليزية والفرنسية والألمانية فقط على نصف هذا العدد (30 بالانكليزية، 15 بالفرنسية، 14 بالألمانية). لم تخرج جائزة نوبل للآداب طوال ثلاثة وأربعين عاماً من عمرها من إطار الدول الغربية. وذلك من خلال حصول الكاتبة التشيلية غابرييلا ميسترال في العام 1945 على الجائزة. و لم تصل إلى العالم العربي سوى مرة واحدة من عمرها الممتد لأكثر من مائة وعشرين عاماً. وذلك بحصول نجيب محفوظ عليها في العام 1988. في حين أنها لم تصل إفريقيا إلا في العام 1986 بحصول وول سوينكا على الجائزة. وبالمجمل فقد تم منح أكثر من مائة جائزة من أصل مائة وعشرين لكتاب الدول الغربية.
مفارقات الأرقام والنسب
إذا كان عدد سكان الكرة الأرضية يقارب الثمانية مليار من البشر، فإننا نتحدث هنا عن ثمن سكان الأرض الذين يعيشون في أوروبا، ونتحدث بذلك عن أدب يتعلق بما ينتجه واحد إلى ثمانية من سكان الأرض. وبذلك يتم تغييب نتاج نسبة سبعة من أصل ثمانية من البشر. ويتم تعريف هذا الأدب وتقديمه على أنه أدب عالمي يمثل الجميع. ومن المفارقة أن تتحول هذه الظاهرة إلى قناعة يروج لها هؤلاء “السبعة من أصل ثمانية” أكثر من أصحاب الظاهرة نفسها. وعندما يتم الحديث عن الأدب العالمي يتحدث من يتم تغييب آدابهم ولغاتهم عن أدب النسبة الضئيلة هذه بانبهار مطلق، وكأنه هو فقط الأدب الجدير بأن يدخل في إطار الأدب العالمي، وأن ما عداه لا يتجاوز الأطر المحلية والوطنية والقومية في القراءة والانتشار.
الأسباب والنتائج
هنا لا أتحدث عن الأسباب والعوامل التي ساهمت وتساهم في تعزيز هذه الظاهرة واستمرارها وهي كثيرة، وإنما أتحدث عن النتيجة التي يتم التسويق لها على أنها حقيقة غير قابلة للنقاش. وإذا أخذنا العاملين السياسي والاقتصادي بعين الاعتبار، فإننا نجد أن هذه الظاهرة تحاكي الوضع الذي أنتجه هذان العاملان بشكل مباشر. حيث أن المسألة في الحقلين السياسي والاقتصادي لا يختلف كثيراً وأن دور المركزية الأوروبية ومن خلفها الدور الريادي لأميركا في هذين المجالين قد أنتج ظواهر سياسية واقتصادية تماثل هذه الظاهرة وتحاكيها إلى حد بعيد. ولذلك فإن الأمر لا يتعلق بالقوة الاقتصادية أو بتخصيص المبالغ الكبيرة من المال لأجل القضايا الأدبية والجوائز، بقدر ما يتعلق بالخلفية السياسية والاقتصادية والصناعية والتكنولوجية التي تتمتع بها هذه البلدان، والدليل على هذا القول هو تخصيص مبالغ مالية هائلة من قبل بعض دول الخليج العربي للجوائز الأدبية والترجمة، والتي تضاهي المبلغ المخصص لجائزة نوبل للآداب، إلا أن الأعمال الفائزة في هذه الجوائز لم ولن تحظى بالدخول إلى “جنة” الأدب العالمي، التي يوجد مفتاح بابها في مكان آخر خارج العالم العربي، ويتم نسيان وإهمال تلك الأعمال الفائزة بالجوائز الأدبية العربية بعد أيام من صدورها، وإن حظي أحد الأعمال بالانتشار، فإنه لا يتجاوز حدود العالم العربي.
الخاتمة
يعتقد الكثيرون بأن المعايير التي تتحكم في تصنيف نتاجات بعض الكتاب الذين يحالفهم الحظ بالانتشار في الغرب هي معايير أدبية تتعلق بالتقنيات الفنية البارعة أو بالإمكانيات الأدبية الهائلة لنصوصهم، وأن هذا هو السبب في تصنيف أدبهم على أنه أدب عالمي. في حين أن السوق الأوروبية التي تنتج هذه الأسماء مشغولة بمعايير أخرى لها علاقة ببيع هذه النصوص أو الكتب أكثر من أية قيمة أدبية أو إنسانية أو فنية تتضمنها هذه النصوص. وفي الختام يظل التساؤل حول ما إذا كان هناك أدب عالمي بالفعل أمراً مشروعاً، وإذا كان يوجد مثل هذا الأدب، فلماذا لا يستطيع سبعة من أصل ثمانية من سكان هذا العالم اتخاذ القرار بشأن ما ينتجه كتّابهم من أدب على أنه أدب عالمي؟ إلى متى ستظل أوروبا هي وحدها من تقرر من هو جدير بالدخول إلى نعيم جنة الأدب العالمي من عدمه، ويظل كتاب القارات الأخرى على امتداد العالم بانتظار أن تحنّ أوربا بالالتفات إليهم كل نصف قرن مرة واحدة؟