ليست المرّة الأولى التي يهدّد فيها بالانسحاب من حلف شمال الأطلسيّ (ناتو). لكنّها المرّة الأولى التي يمكن القول فيها إنّ التهديد أكثر جدّيّة. في 2019، حين كان رئيساً للبلاد، ذكرت “نيويورك تايمز” أنّ دونالد ترامب ناقش في مجالسه فكرة الانسحاب من الناتو. في 2020، ووفقاً للصحيفة نفسها، قال مسؤولون سابقون في إدارته إنّه قد يخرج فعلاً من الحلف في حال فوزه بولاية ثانية.

خسر ترامب الانتخابات وتنفّس الأوروبّيّون الصعداء. لكنّ الزمن يمرّ بسرعة. انتخابات 2024 تقترب ويتمتّع ترامب بفرص مساوية للرئيس جو بايدن كي يفوز مجدّداً بالبيت الأبيض. المخاوف في أوروبا تتجدّد. ولا شكّ في أنّ تقرير “رولينغ ستون” يوم الاثنين لن يهدّئها.

شرطان

ينقل التقرير عن مصدر مقرب من ترامب قولهما إنّ الرئيس السابق يريد من المسؤولين الذين يتولّون حكومته المقبلة ألّا يكونوا من “محبّي الناتو”. في الوقت نفسه، يبدي ترامب انفتاحاً على البقاء في الحلف بشرطين. الأوّل أن يزيد الحلفاء إنفاقهم الدفاعيّ بنسبة كبيرة. بناء على موازنات 2022، زادت جميع الدول الأطلسيّة إنفاقها الدفاعيّ للعام الثامن على التوالي حيث وصل مجموع الزيادة إلى. لكنّ عدد الدول التي لا تلتزم بهدف 2 في المئة المقرّر سنة 2014 ليس فقط أكبر من الدول الملتزمة، بل إنّ قسماً كبيراً منها يمثّل الدول الأكثر اقتداراً مثل ألمانيا وكندا وإسبانيا مقارنة مثلاً مع دول البلطيق

الشرط الثاني هو إعادة تقييم المادّة الخامسة من المعاهدة والتي تنصّ على أنّ هجوماً على أحد الأعضاء يعدّ هجوماً على جميع الأعضاء. يعدّ ذلك مطلباً جديداً لكنّه يعكس تشكيك ترامب الطويل بفائدة التحالفات الدوليّة. في جميع الأحوال، يعني هذا المطلب إعادة تقييم علّة وجود الناتو. طالما أنّ الولايات المتحدة والدول الكبيرة في الحلف لن تكون مضطرّة للدفاع عن بعض أعضائه، سيكون التساؤل مشروعاً حول جدوى وجود الناتو. وبطريقة غير مباشرة، يلغي المطلب الثاني قيمة البحث في المطلب الأوّل. إذا أصبحت المادّة الخامسة مجرّدة من أيّ تأثير فسيكون بالإمكان التساؤل عن السبب الذي يدعو الدول الأطلسيّة للالتزام بقرارات واشنطن طالما أنّ الأخيرة قد تتردّد لتقديم يد العون عند الحاجة.

“بشكل شبه مؤكّد”

يقول مصدر لـ”رولينغ ستون” إنّ ترامب تذمّر في 2018 من فائدة انجرار الولايات المتحدة إلى “حرب عالميّة ثالثة” للدفاع عن دول لم يسمع بها معظم الأميركيّين. يتحدّث ترامب وقسم من اليمين الأميركيّ عن مخاطرة بايدن بإقحام أميركا في “حرب عالميّة ثالثة” بسبب سياساته في أوكرانيا، لذلك إنّ فكرة أنّ الناتو يفرض مساراً قاتماً كهذا على الولايات المتحدة ليست غريبة. المرشّح الذي يحتلّ المركز الرابع في استطلاعات الرأي الجمهوريّة الوطنيّة والمؤيّد للسياسات الانعزاليّة فيفيك راماسوامي، وردّاً على سؤال ” بشأن التقرير عن نيّة ترامب الانسحاب من الناتو، قال إنّ الأمر “معقول”.

وفي تعليق لصحيفة “ذا هيل ” الصيف الماضي، قال مستشار ترامب السابق لشؤون الأمن القوميّ جون بولتون إنّه في حال فوزه بولاية ثانية، ستنسحب الولايات المتحدة “بشكل شبه مؤكّد” من الناتو.

الفرق بين 2017 و2025

في 13 تمّوز (يوليو)، أعدّت مجلّة “” تقريراً عن خطط ترامب “المقلقة” لولاية ثانية. هذه المرّة، يخطّط جمهوريّو “أميركا أوّلاً” لترسيخ أنفسهم في السلطة كي لا يجد ترامب نفسه مضطرّاً لاختيار مستشارين ومسؤولين من “المؤسّسة”. يريد المقرّبون من ترامب إفراغ “الدولة العميقة” من قوّتها عبر تقليص عدد الموظّفين الحكوميّين بحدود نحو 50 ألفاً. حتى الذين أبدوا استياءهم من اقتحام الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير) 2021 سيشطبون من قائمة المؤهّلين لتولّي مناصب حكوميّة. هذه الأفكار واردة في وثائق من مئات الصفحات وقد تسنّى لجمهوريّي ترامب التحضير لها طوال أعوام.

إذاً بعكس سنة 2016 حين تفاجأ ربّما بفوزه بالانتخابات، سيكون ترامب أكثر استعداداً للتمسّك بأفكاره مدعوماً بمستشارين لا يعاكسون رغباته. لا “راشدين في الغرفة” هذه المرّة. وذكر موقع اكسيوس ” السنة الماضية أنّ هناك ما يقرب من 10 آلاف شخص يتمّ التدقيق بسيرهم الذاتيّة استعداداً لولاية ثانية محتملة.

استعدادات

ربّما ينجح ترامب بانتزاع المزيد من الالتزامات الماليّة من الحلفاء مقابل تنازله عن النظر في المادّة الخامسة. لكنّ هذا الرهان قد يكون متفائلاً. في الواقع، إنّ أيّ انفتاح محتمل له على الأفكار التي يقترحها الأوروبّيّون قد يقيّدها مستشاروه. يمكن أن يضغط هؤلاء على ترامب للانسحاب من الناتو من دون مفاوضات، على قاعدة أنّه سيدخل التاريخ كأوّل رئيس “يحرّر” الولايات المتحدة من عب

يقال إنّه في السياسة، يجب تأمّل الأفضل والتخطيط للأسوأ. قد لا تتحقّق أيّ من هذه المخاوف الحاليّة. لكنّ الانتظار من دون تحرّك ليس خياراً بالنسبة إلى البعض الذي بدأ بالفعل يخطّط للأسوأ. تقدم من الحزبين في مجلسي الشيوخ والنوّاب بمشاريع قوانين تمنع تحويل أيّ أموال مخصّصة لانسحاب رئيس أميركيّ من الناتو بدون موافقة من ثلثي أعضاء الكونغرس. واضحٌ أنّ هذه الخطوات تأتي استباقاً لإمكانيّة وصول ترامب إلى الرئاسة في 2025.

بالمقابل، لم تبصر مسوّدات تشريعيّة النور على الضفّة الانعزاليّة بعدما واجهت رفضاً من الغالبيّة التشريعيّة، كما حصل  مع السيناتور راند بول الذي أراد عدم تفعيل المادّة الخامسة بدون موافقة الكونغرس، أو مطالبة النائبة مارجوري تايلور غرين بخفض مساهمات أميركا الماليّة لبعض المنشآت الأطلسيّة بنحو 73 مليون دولار. حظي مقترحها فقط بتصويت نحو ثلث الجمهوريّين في كلا المجلسين.

إلى الآن، لا يزال التيّار المؤيّد للحضور الأميركيّ النشط في الناتو متفوّقاً في واشنطن. لكن حتى لو كان الكونغرس قادراً على تقييد نزعات ترامب الانعزاليّة وإبقاء البلاد في الناتو، فهذا لا يعني    أنّ الولايات المتحدة ستكون ملزمة بالدفاع عن الدولة الأطلسيّة المعرّضة للاعتداء. سيبقى القرار النهائيّ في واشنطن لا في بروكسل.

الغيوم تتجمّع على الضفّة الغربيّة للأطلسيّ. في 5 تشرين الثاني 2024، يدرك العالم الغربيّ ما إذا كانت ستتحوّل إلى عاصفة أم لا.