كل شيء في الوجود المادي والروحي له علاقة بنشوء الأنا، فبعد سنواتٍ عدة حين تتسع دائرة المعرفة لدى الإنسان ويحدق في نفسه في مرآة ناقدة سيجد أن أناه لم تتكون ولم تأتِ من العدم، بل هي نتيجة لقيم متوارثة وتصورات مجتمعية أثرت فيه، بحكم البيئة ومؤثراتٌ أخرى اكتسبها هو بحكم مهنتهِ في الحياة وعلاقاته التواصلية، فالأنا أشبه بكرة الثلج، كلما دحرجتها الأيام اكتسبت حجماً، وهي متأثرة بالـ نحن، الضمير المعبر عن الجماعة.
الصورة المعلقة على الحائط، والموسيقى، التي يسمعها الآباء في حضرة الأبناء، لها دور في تكوين أنا أبنائهم، وجود قطعة سلاح يسبب العدوانية، التكلم بصوتٍ عالٍ أو منخفض، والإيماءات أيضاً أثناء الكلام، هي نتيجة لمؤثرٍ ما، وهي شبيهة بقطعة أرضٍ تنبت ما يزرع فيها. ارتداء نوعية خاصة من الملابس له دلالة، ربما تكون هذهِ الأنا الذكورية أنثوية إذا تربى الذكر في جو عائلي غالبيته إناث، وربما تكون الأنا الأنثوية مسترجلة إذا ما تربت الأنثى في عائلة غالبية أفرادها من الذكور. ويمكن أن نقول إن هذه الأنا قطعة مغناطيس تجذب إليها جميع أنواع المعادن!.
صناعة أنا جديدة
لم يقرأ (رامون ميركادير ديل ريو 1913 ـ 1976) كتاب «الثورة المغدورة» لـ(لييف دافيودفيتش تروتسكي 1879 ـ 1940 ) كما اعترف هو صاحب الأسماء الكثيرة في الصفحات الأخيرة من رواية (الرجل الذي كان يحب الكلاب، الصادرة عن دار المدى، ترجمة بسام البزاز) وإنهُ لو قرأها لما أقدم على قتل مؤلفه على حد تعبيرهِ، حتى إنهُ لم يكن يدري لماذا انتسب إلى الحزب الشيوعي، متسائلاً هو نفسه عن السبب، هل بسبب أمهِ كاريداد، أم بسبب روحهِ المتمردة؟.
لكن حين نتعمق في قراءة صفحات الرواية نجد أن الأم كانت مسيطرة عليه تماماً، بينما هو منصاع لها، وهي من دفعته إلى فعل القتل، بمثابة انتقام، ورد فعل منها على الكراهيات والإهانات، التي تلقتها وتعرضت لها حين كانت زوجة لرجل برجوازي. كما إنه لأول مرة سمع باسم تروتسكي من الفتاة أفريكا، حين كانت تلقي محاضرة حول الفكر السياسي وتطبيقهِ لدى جوزيف ستالين، لذا لم تكن الدوافع الأساسية لقتله (لييف دافيدوفيتش تروتسكي) قائد الثورة البلشفية سياسية، بل كانت محاولة لإثبات الذات؛ الذات الهشة أمام الآخر المتمثل بأفريكا المغرم بها والمؤمنة المستشهدة بأفكار كارل ماركس وإنجلز ولينين.
فالأنا لدى أفريكا «أنا الهيمنة الناتجة عن سلطة ما» إذ كانت ترى في لينيين التجسيد الحي للمستقبل، وكانت تلقبه بدليل البروليتاريا العالمية. كاريداد كانت شخصيتها قوية؛ إذ تمردت على زوجها المشغول بجرد حساباته، وذهبت إلى العالم السفلي.. تعاطت الكحول والمخدرات، ووجدت الوفاء هناك؛ إذ كونت أناها، التي تحب في ذلك العالم المنزوي، وفيما بعد تركت البيت برفقة أبنائها، متخلية عن زوجها. بينما كان رامون ضعيف الشخصية بسبب أن الأم كانت غائبة معظم الأوقات، وبسبب الجو الأسري المتشرذم، فـأناهُ جوفاء فارغة المضمون، وغير ناضجة، أشبه بدلوٍ يُملأ حسب حاجة الآخر إليها، أو هي لوحة إعلانات!.
كان اسمهِ رامون ميركادير، ثم أدريانو، ثم رامون بافلوفيتش وفرانك جاكسون، ثم جاك مورنارد. كان يصنع له هويات واهتمامات ومهن ومعلومات عامة عن الدولة، ينتمي إليها حسب الجنسية، التي يحملها، وذلك يدل على أنه كان أشبه بجهاز تلفاز يتم التحكم بهِ، فالمستشار الذي استقبل رامون في الأراضي السوفييتية في معسكر التأهيل قال له: «ليس عليك أن تفهم شيئاً، قلتُ لكَ إنّ ستالين لديه أسبابه، أما نحن فعلينا الطاعة.. بالمناسبة كم مرةٍ سمعت كلمة «طاعة» في هذهِ الأيام؟ لا أدري، هذا ما قاله رامون. فيرد عليه المستشار: «ستعاود سماعها آلاف المرات، فهي أهم كلمة، وبعدها يأتي «الإخلاص» و«الكتمان».. هذا هو الثالوث المقدس الذي عليك أن تحفره على جبهتك».
بعد ذلك تم إدخاله إلى مختبر حزبي أيديولوجي لصناعة أنا جديدة للشخص ذاتهِ.. أنا تناسب معايير العمل المطلوبة بدقة تفوق درجة الممتاز على سلم التقدير، هذهِ الأنا هيأت داخلياً شخصا عارفاً بتاريخ الحزب وعلم النفس والسياسية الدولية والماركسية ـ اللينينية، والتحدث باللغة الفرنسية بطلاقة تامة، والتفكير بها، والحلم بها أيضاً، إذا كان فرنسياً، والتخلي عن الإسبانية نهائياً، وخارجياً بدنياً تقنية البقاء على قيد الحياة. هذهِ الأنا الجديدة هي الأنا (الأداتية – الروبوتية ) لها تاريخ إنتاج وتاريخ انتهاء. الرواية ذات أصوات عدَّة وأقنعة كثيرة، جغرافيتها هي جغرافياتٌ حقيقية، كأنه عرض مسرحي.. كل مرة يدخل شخص إلى سرد الحكاية ويستكمله، دون أن يسيء إلى آلية السرد، إذ ترصد الرواية سيرة القتيل تروتسكي، والقاتل رامون ميركادير دل ريو، وأحداث الحرب الأهلية الإسبانية، وتسلم ستالين مقاليد الحكم في روسيا!.
الأنا الموروثة
(قصة موت معلن) عنوان يعني أن هناك حدث / فعل تم الإعلان عنهُ في وقتٍ سابق. هي رواية لكنها ليست كما الروايات، التي اعتدنا قراءتها، إنها رواية بصيغة محضر أمني؛ لأن فكرتها تطلبت ذلك، لذا كتبت بلغة مجردة تماماً من البلاغة التعبيرية.
«الشرف لا يحتمل انتظاراً»؛ هذا ما قالته والدة الفتاة برودينثيا خطيبة بابلو فيكاريو.
الفعل / الحدث جريمة شرف في بيئة دينية – منطقة الكاريبي، القاتل هما «الأخوان فيكاريو» والقتيل «سنتياغو نصار» ابن مهاجر عربي ومن أثرياء المنطقة، متهمٌ بسلب عذرية الفتاة أنخيلا فيكاريو، والعذرية رمزٌ لطهارة الفتاة وعائلتها والمجتمع، إذ إنها أعيدت إلى منزل أهلها سيراً على الأقدام، رغم أن زوجها «بيادو ساد رومان « يملك سيارة؛ فعل ذلك كي لا يفضح صوت محركها مصيبته قبل الأوان، لأنها لم تكن عذراء بعد أن تزوجته، لكنها ألقت التهمة على سنتياغو نصار شفهيّا، دون أدلة تأكيدية، وهي نفسها فكرت في استعارة بيت بلاثيدا لينيرو والدة سنتياغو لإقامة زفافها فيه، كون بيت عائلتها صغير لا يتسع للحفلة، وذلك لأنه رجل ثريٌ، دلالة رمزية من الكاتب ليوضح الأنا في التفاوت الطبقي، مستغلة هي ثراءه ككناية عن القوة ليكون المال والجاه رادعاً في غسل العار، لكن الكاتب يؤكد أن لا شيء أقدس من الشرف، فمهما كان المندس وجب عقابه على فعلتهِ. بينما الأنا في شخصية التوأمين فيكاريو ترمز إلى الأنا في الطبقة العامة، كما إن اختيار الأخوين بدلاً من الواحد لتنفيذ جريمة قتل، إشارة إلى أن الأنا متوارثة من الأجداد إلى الأحفاد.
الملفت للنظر في هذهِ الرواية (قصة موت معلن) لغابرييل غارسيا ماركيز، أدبية الأدب فيها، وتمهيد أجواء الاستدراك للقارئ، كي لا يضيع في متاهات الأحداث، ذلك قبل أن يفضي به الحدث إلى لحظة القتل وتشريح الجثة.
الأنا السببية
لكل حركة محركها، ولكل علة معلولها، ولكل فعل في الوجود دافعه وسببه، ولكل أنا سببها في الإقدام على خطوة ما، إذ لا خطوة تأتي من العدم، فالمفعول نتيجة لفعل قمنا به لغاية في أنفسنا، ربما تكون الغاية جلب المال أو الشهرة أو دفاعاً عن فكرة ما، لكننا نبرر الفعل ذاك دائماً كي لا يؤنبا ضميرنا مستقبلاً، ليس بالمعنى البعيد للكلمة فحسب، وإنما بالمعنى القريب أيضاً. إذاً هناك سببٌ لجميع الأفعال في الحياة برمتها!.
في رواية «الجريمة والعقاب» لفيدور دستويفسكي لم تكن ولادة فعل القتل في نفس راسكولينكون، الشخصية المحورية في الرواية، الطالب الحقوقي المنطوي على نفسهِ دائماً، من العدم بل من لحظات كثيرة مرت في حياتهِ، أوجدت شيئاً في دخيلته.. وكانت سببا في ولادة أنا جديدة؛ أنا تستمد قوامها من ظروفه الحياتية الصعبة، هذهِ الأنا لها أسبابها للقيام بفعلٍ ما أو قولٍ ما، ولحظة ذهابهِ بـأناه المولودة في نفسهِ إلى الخمارة، متعرفاً على أحدهم، ويدعى مارميلادوف، وهو موظفٌ يلقي عليه التحية، ثم يملي عليه فصولاً مطولةٍ من حياتهِ، التي أهانته كثيرا، وإقامته في مسكن بائس وزوجته، التي انهالت عليه بالضرب لأنه سكر بملبغ كان يحمله في جيبه، وطرده لـ راسكولينكوف من بيتهم بعد أن رافقه إليهِ، بهذهِ الأنا شعر بالإهانة وهو يقرأ رسالة أمهِ شاكيَّة له معاناة شقيقته دونيا المربية في منزل آل سيفيدريجايلوف؛ إذ حاول السيد سفيدريجالوف مراراً استغلالها بسبب ظروفها الحياتية الصعبة، كونها استلفت مبالغ مادية من أجلهِ هو، وما نتج عن ذلك من أقاويل كثيرةً. إن الأم والأخت كذبتا عليه بأن المال المرسل إليه من أجل تعليمه كان نتيجة مدخرات سابقة. هو التمس التضحية التي تقدمها أمهِ وشقيقته من أجله، فإذ بها ستتزوج من رجل ثري، سيكون سندًا له في حياتهِ المستقبلية فيوظفه لديه في مجاله الحقوقي. وبعد أن فرغ من قراءة الرسالة راح يفكر، لكنه اتخذ قراراً في نفسهِ «لن يتم هذا الزواج ما حييت، فليذهب السيد لوجين إلى الجحيم». وحمل ما سردته أمهِ في الرسالة على محمل الشك. هذهِ الأنا رغم أنها تسكن في رجل هزيل الجسم، رث الثياب، إلا أنها تشاجرت مع رجل مسلح بالسوط ضخم الجثة من أجل فتاة تعرضت للاستغلال، وهي لم تزل طفلة، كان يتبعها بينما هي تسير ثملة مترنحة في مشيتها، كما أنه أعطاها عشرين كوبيكاً. هذهِ الأنا عادت بهِ في الحلم إلى طفولته وبراءتهِ محتضناً الدابة التي انهال عليها صاحبها ميكولكا بالسوط ضرباً لأنها لم تستطع جر العربة بحمولتها البشرية الثقيلة، كما أن المالك دعا الركاب إلى ضربها حتى تسير. هذه الأنا الجديدة حتى للحيوان تنتصر!.
هذهِ الأنا الجديدة فسرت ما تنوي القيام بهِ بأنه ليس جريمة. هو قرر منذ البداية أن يسرق الفأس من مطبخ ناستاسيا الخادمة رغم أنه كان يملك مقصاً مطوياً في جيبهِ يستعمل في الحدائق، لكنه كان غير واثق من المقص ومن استطاعته. دخل مطبخها، كانت غائبة ولم يكن الفأس موجودًا، حدّث نفسه وهو يجتاز باب المنزل قائلاً: « من أين جئتُ بهذهِ الفكرة؛ وهي أن ناستاسيا لا تكون في هذهِ اللحظة غائبة حتماً ؟ لماذا اتخذت هذا القرار موقناً هذا اليقين كلهُ ؟». ارتعش راسكولينكوف أمام غرفة البوّاب الصغيرة، بابها كان مفتوحاً، حين لمح شيئاً يلمع في داخلها، تفحصها جيداً ونادى بصوت منخفض ولم يستجب له أحد فـ هبط أدراج الغرفة، وإذ ذلك الشيء اللامع هو الفأس، تناوله مباشرة ووضعه في العلّاقة التي صنعها له خصيصاً في معطفهِ، يسنده من خلال يده في الجيب أثناء رسمهِ له. بعدها خرج متجهاً إلى الشارع ومشى بشكل طبيعي إلى بيت اليونا ايفانوفنا منتظرًا الوقت المناسب، ثم طرق بابها عدت مرات حتى فتحت له الباب، ودخل قبل أن تسمح له، قائلاً: جئت إليك بالرهن الذي حدثتك عنه في المرة السابقة، ناول الرهن للسيدة طالباً منها أن تتفحصه؛ إنها علبة سجائر مصنوعة من الفضة كان قد ربطها بإحكام حتى تنشغل اليونا بفتحها فيُخرج هو الفأس وينهال على رأسها، وفعلاً انهال بالفأس على جمجمتها، بعدها أخرج المفاتيح من جيب الجثة وسرق مالها والرهائن، ثم سمع خطى تقترب وإذ هي اليزافيتا ايفانوفنا شقيقتها تدخل باب الشقة فتجد أختها طريحة الأرض وبجانبها بركة من الدماء، فينهال راسكولينكوف عليها أيضاً بالفأس لتموت هي الأخرى.
إذاً الأنا في شخصية راسكولينكوف القاتل هي الأنا السببية، الأنا التي حثته على فعل القتل انتصارًا لـ الإنسان البائس. في هذهِ الرواية ــ فيدور مخائيلوفتش دوستويفسكي لا يكتب بل يصور وقائع الحادثة تصويرًا دقيقاً؛ فالقلم هنا كما آلة التصوير..!
كاتب سوري