يتّفق الأتراك على كون معركة اسطنبول في الانتخابات البلدية المقرر إجراؤها نهاية هذا الأسبوع بمثابة “أمّ المعارك” من بين عشرات البلديات الكبرى ومئات الصغرى، نظراً للأهمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمدينة، ما يجعل من تأثير الظفر بها يتجاوز حدود الخدمات البلدية، ليطرق أبواب السياسة في القصر الرئاسي والخارجية التركية.
خسر “العدالة والتنمية”، حزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الانتخابات الأخيرة عام 2019، بلدية اسطنبول، في انتصار وصف بالتاريخي للمعارضة، وبعد ربع قرن من استحواذ السلطة عليها، وعلى الرغم من الآمال التي رافقت هذا الإنجاز لناحية آمال إطاحة الرئيس التركي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة انطلاقاً من البلدية الأهم في البلاد، إلا أن الصورة انقلبت بعد خمس سنوات، حيث يحاول أردوغان اليوم الانتقام لتلك الهزيمة واستعادة السيطرة على القوة الاقتصادية للبلاد.
ومسلحاً بالفوز الساحق الذي حققه قبل 5 سنوات، يحاول رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو (53 عاماً) من حزب الشعب الجمهوري المعارض، تحدّي وزير البيئة السابق مراد كوروم (47 عاماً)، في معركة صعبة وغير محسومة النتائج.
إمام أوغلو يواجه أردوغان
وتشير نتائج معظم مراكز الدراسات واستطلاعات الرأي التركية إلى فوز مرشّحي حزب “الشعب الجمهوري” في كل من العاصمة أنقرة واسطنبول، البلدية الأكبر في البلاد.
وفيما يبدو الظفر ببلدية أنقرة الكبرى شبه محسوم لمصلحة الرئيس الحالي منصور يافاش لولاية ثانية وبفارق قد يتجاوز 15% عن منافسه ممثل “العدالة والتنمية”، فإن أكثر نتائج الاستطلاع إيجابية لناحية فوز إمام أوغلو، تشير إلى تقدّمه على ممثل أردوغان بنسبة 7% فقط.
ومع الأخذ في الاعتبار نسبة الخطأ المقدّرة بنسبة 3% المتفق عليها في استطلاعات الرأي الشعبية، وقدرة حزب “العدالة والتنمية” الكبيرة في إدارة مراكز الانتخابات ومراقبة الصناديق، وامتلاكه وسائل الإعلام الرسمية وكبرى المؤسسات الإعلامية الخاصة، وتسخيره قدرات الوزارات ومقدرّات الدولة، وسيطرته على اللجنة الانتخابية العليا والمجلس الأعلى للقضاء، فكل هذه العوامل تصعّب اعتماد المعارضة على نتائج الاستطلاعات لضمان فوزها.
في الضفة المقابلة، أجبرت نتائج استطلاعات الرأي الرئيس التركي على تركيز جهوده الانتخابية على اسطنبول خاصة، والتي جعل منها مقراً لمعركته الانتخابية خلال اليومين الأخيرين من الشهر الحالي بالإقامة فيها، كما أوعز لوزرائه بالنزول إلى شوارعها وحث الناس على التصويت لمرشّحه، لتسجّل البلاد للمرة الأولى تجوّل وزراء الخارجية والداخلية والدفاع في الأسواق والطلب من الناس الإدلاء بأصواتهم لمراد كوروم، إلى جانب تجمعات الإفطار والمناسبات الاجتماعية التي حضرها أعضاء مجلس الوزراء يومياً.
لكن مؤسس ومدير شركة ميتروبول لاستطلاعات الرأي، وزير سانجار، يرى أن “الحملة الانتخابية الشرسة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة إمام أوغلو صبت في مصلحة الأخير”.
ويشرح سانجار لـ”النهار العربي” أنه “بالرغم من كونها انتخابات بلدية من المفترض أن تكون بعيدة عن الخطابات السياسية وأكثر تركيزاً على الملفات المحلية والخدمية، إلا أن تجوّل الرئيس أردوغان ونوّابه ووزرائه ومسؤولي حزبه بين المدن ومن ساحة انتخابية لأخرى ولّد شعوراً بمظلومية مرشّحي المعارضة لدى الناخبين الأتراك”.
وأضاف: “صحيح أن المنافسة على رئاسة بلدية اسطنبول هي بين إمام أوغلو وكوروم، لكن أردوغان جعل من هذه المنافسة معركة بينه وبين إمام أوغلو، وبين الدولة وحزب الشعب الجمهوري، وبالتالي يمكننا القول إن إمام أوغلو يواجه اليوم أردوغان في اسطنبول”.
وفي خطاب له بولاية توكات مطلع الأسبوع، لم يفوّت أردوغان فرصة وجود عدد كبير من أبناء هذه الولاية كمغتربين في اسطنبول البعيدة مئات الكليومترات، طالباً من الناس الإيعاز لذويهم وأقاربهم الموجودين هناك للتصويت لكوروم في الانتخابات البلدية.
ووفق سانجار، ارتفع الفارق بين إمام أوغلو وكوروم إلى نحو 7% بعدما كان دون 3% قبل شهرين، ولا يعود الفضل في ذلك إلى أداء إمام أوغلو خلال الحملة الانتخابية، “فهو لم يقم بخطوات استثنائية خلال الشهرين الأخيرين حسب متابعتي، لكن بالدرجة الأولى، إلى انكشاف ضعف مرشّح السلطة من جهة، والإحساس بالمظلومية التي تحدّثت عنها من جهة أخرى”.
الاقتصاد التحدّي الأبرز
تعتبر اسطنبول الحجر الأساس في السياسة التركية، لناحية وزنها وثقلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لذا يحارب الرئيس التركي للاستحواذ على بلديّتها لتعزيز وصول حزب العدالة والتنمية إلى موارد اسطنبول المالية، التي تشكّل وحدها ثلث اقتصاد تركيا.
أردوغان الذي وصلت سياساته الاقتصادية إلى طريق مسدود وتراجعت شعبيته بين الناخبين، حشد كل موارد الدولة والصحافة وكل سلطته من أجل معركة اسطنبول، التي وصفها يوماً بأن “من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا”.
وبالنظر إلى تراجع حظوظه في استعادة بلديتي أنقرة وإزمير، وهما العاصمة والمدينة الثالثة من ناحية الحجم والأهمية في البلاد، فإن خسارته لاسطنبول أيضاً ترسّخ من قناعة تراجع شرعيته السياسية في البلاد وتعزز من قناعة كونها “شرعية سياسية مفروضة ريفياً وقروياً”.
بالمقابل، ستكون الانتخابات اختباراً مهماً لأحزاب المعارضة، وخصوصاً حزب “الشعب الجمهوري” الذي مرّ بمخاض عسير بعد فشله في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، أدّت إلى تغيير رئيسه وكوادره القيادية، ومعياراً في قدرته على طرحه كبديل للعدالة والتنمية قادر على إدارة البلاد.
أما على المستوى الشخصي، فإن فوز إمام أوغلو مرة أخرى سيعزز من مكانته كسياسي شعبوي قادر على هزيمة أردوغان، وكمنافس قوي لتمثيل الكتلة المناهضة للرئيس التركي والساعية لإطاحته.
صعوبات السلطة والمعارضة في إسطنبول
بالإضافة إلى عامل المظلومية، يبدو تصاعد الغضب الشعبي إزاء ارتفاع التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وخاصة شريحة المتقاعدين الذين باتت رواتبهم دون مستوى خط الفقر، بين أبرز العوامل التي أدّت إلى تراجع الدعم للحكومة ومرشّحيها من قبل سكّان المدن الكبرى، حيث تكون وطأة غلاء المعيشة وارتفاع تكاليف التعليم والطبابة، مقابل تراجع الدخل أكثر ثقلاً وأسرع انعكاساً مقارنة مع المدن الصغرى والأرياف.
في أكبر تجمّع انتخابي خلال عطلة نهاية الأسبوع، لفت أردوغان الانتباه إلى انخفاض الحشود في إسطنبول، قائلاً من على المنصّة: “لقد اعتدنا على رؤية 1.5 مليون شخص هنا، ولكن اليوم هناك 650 ألف شخص فقط”، فيما أكّد الصحافي طلحى أميرير لـ”النهار العربي” من موقع التجمّع في مطار أتاتورك بأن الحضور لم يتجاوز 350 ألفاً في أفضل الأحوال.
فاز أردوغان بالانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة في أيار (مايو) من العام الماضي، لكنه خسر أصوات إسطنبول والعاصمة أنقرة، حيث تظهر الأزمة الاقتصادية نفسها بشكل أكثر وضوحاً. ووفقاً لوكالة التخطيط التابعة لبلدية إسطنبول، ارتفعت تكاليف المعيشة في إسطنبول بنسبة 81% سنوياً في شباط (فبراير)، ليبلغ متوسط نفقات أسرة مكونة من أربعة أفراد ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور.
وفي خضم هذا الغضب الشعبي من قبل أنصار التيار المحافظ الداعم للإسلام السياسي في البلاد، أعلن حزب “الرفاه الجديد”، حليف حزب “العدالة والتنمية” على مدى سنوات، عزمه على خوض الانتخابات الحالية بشكل منفصل للمرة الأولى، متسلّحاً بالزخم الذي اكتسبه من خلال جذب أنصار أردوغان المنهكين الذين يرزحون تحت وطأة اقتصاد يعاني تضخماً بنسبة 67% وفق الأرقام الرسمية، و130% وفق دراسات الجهات الأكاديمية، وهو أحد أعلى معدلات التضخم في العالم.
إمام أوغلو في مواجهة القضاء
في المقابل، فإن التشققات في الائتلاف المعارض أكثر وضوحاً وعمقاً من “تحالف الجمهور” الذي أسسته السلطة. تخوض المعارضة انتخابات إسطنبول اليوم بـ3 مرشّحين، حيث يتنافس إمام أوغلو الذي كان ممثل المعارضة الوحيد في انتخابات عام 2019، مع كل من ميرال دنيش بيشتاش، مرشّحة حزب “الديموقراطية ومساواة الشعوب” (ديم) الموالي للكرد، وبوغرا كافونجو مرشح حزب “الجيد”.
التشتت في مشهد المعارضة يعيد إلى أذهان الناخبين الأتراك مخاوف تكرار سيناريو الانتخابات البلدية لعام 1994، حين خسر حزب “الشعب الجمهوري” بلدية إسطنبول لمصلحة الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، بعد منافسة ثلاثة أحزاب يسارية دخلت الانتخابات.
وحتى لو فاز إمام أوغلو، فلا يزال أمامه معركة أخرى ليخوضها عقب اتّهامه بإهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات بعد فوزه في انتخابات 2019. أمر المجلس في حينه بإعادة التصويت، وفاز إمام أوغلو مرة أخرى وبفارق 20 ضعفاً عن نتيجة الدورة الأولى، منهياً حكم حزب العدالة والتنمية الذي دام ربع قرن في المدينة.
تترقّب تركيا الانتخابات البلدية التي تنطلق في صباح 31 آذار (مارس) الجاري بعين على كامل البلاد، وأخرى على إسطنبول، التي انطلق منها أردوغان إلى الحياة السياسية قبل 3 عقود، ومنها قد ينطلق الرئيس المحتمل القادم لتركيا أكرم إمام أوغلو.