تبحث الورقة في الاغتيال السياسي من منظورَين. فهي تتطرَّق في الجزء الأوَّل إلى القصور المعرفيّ المحيط بالموضوع والذي يحصر الدراسات المتوفِّرة بالتوثيق الزمني أو بالمسارات القضائية، وتطرح إشكالية الفجوة بين القانوني والثقافي والمعرفي في إعداد أدوات التحليل والردع. ويضيء القسم الثاني، من خلال اغتيال ثلاث شخصيات سورية كردية، على دوافعَ تجعل من شخصيّة عامَّة هدفًا دون غيرها، كما يُضيء على الالتِباس، لا بل التناقض، بين حركات التحرُّر والتفاعُلات الديمقراطيّة داخل المجتمعات والأحزاب السياسية.
تُظهر عملية الاغتيال السياسي التفاعلات بين آليّات السلطة والجريمة، تتحوَّل فيها هذه الأخيرة إلى أداة حكم بامتياز، وتُدمغُ فيها تداخلا مضلِّلًا بين ما هو جنائي وما هو سياسي، متسبِّبة بإشكالية قانونية لم يستدركها الفكر الجزائي في نظرته الإجرائية لها النوع من الجريمة وقصاصها. وذلك لأن معاملة الاغتيال، في إطاره الراهن كجريمة قتل عمد، تحجب جزءًا من طبيعته الجرمية غير القابلة للاختزال إلى واقعة زهق الروح. فما يتمُّ استهدافه أصلاً هو ما تجسّده الضحية من خصومة سياسية تستدعي تدرُّجًا في الترهيب، وفقًا لمكانة الضحية في النظام السياسيّ. فالتبعات القضائيّة المتباينة المترتِّبة على الاغتيال تُظهر أن العدالة لا يمكنها الفكاك من الأرضية السياسية لهذه الجريمة.
أفرز هذا الأمر عبر التاريخ تراتبيّة مُجحفة بحقّ ضحايا الاغتيال السياسيّ، تُختزَل بعضها بتكييفٍ قانوني كجريمة انتهاك لجسد الفرد، بينما ترقى باغتيالاتٍ أخرى إلى مستوى انتهاك لجسد الأمّة برمَّتها.
ثمّة تيار قانوني يطالب بتوحيد معايير العدالة ودمج الاغتيال السياسي على غرار الإرهاب في فئة القتل العمد بناءً على الواقعة المادية لزهق الروح. وذلك تجنّبًا لعودة لاهوت قضائي من القرون الوسطى يصنِّف ضحايا الاغتيال وفقًا لمكانتهم، على غرار ما جرى في الدول الأوربية خلال القرن الـثامن عشر مع موجة الاغتيالات التي طالت ملوكها، فنشأت فكرة كانتوروويتز حول «ازدواجية جسد الملك»،[i] وكيف أنَّ المساس به يختلف عن اغتيال شخصٍ آخر قد تكون لديه أفكار سياسية مغايرة لكنه لا يتسنّم أيَّ منصب سياديٍّ في الدولة. فمثلاً، انتهت عملية اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانسوا فرديناند الذي قتله صربيٌّ في سراييفو ١٩١٤ باندلاع الحرب العالمية الأولى. وأفضت موجة الاغتيالات في لبنان إلى إنشاء محكمةٍ دولية خاصة في عام ٢٠٠٥، لتكون بذلك أولى المحاكم الدولية المؤسَّسة لغرض النظر في الاغتيال بناءً على قاعدةٍ عرفيّة دوليّة هي «الإرهاب في زمن السلم»،[ii] إذ إنَّ القانون الدولي لم يكن مستعدًّا بعد لمواجهة تلك الجريمة بالقوانين الدولية. فجميع المحاكم الدولية، منذ نورمبرغ ١٩٤٥ وطوكيو ١٩٤٦ العسكريتين، وصولاً إلى بداية التسعينيات وتأسيس محاكم مخصّصة ليوغسلافيا وروندا وسيراليون، تأسَّست بغرض النظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ضمن سياق العدالة الانتقالية.[iii] في حين تُحال جرائم الاغتيال الأخرى إلى الأجهزة القضائية الوطنية في الأنظمة المستبِدّة، لتسقط في غياهب النسيان، وتنتهي ملفّات كثيرة لضحايا الاغتيال في دولٍ كسوريا والعراق إلى أضابير منسيّة في الركام البيروقراطي.
كيف يمكن إذًا للفقه القانوني أن ينظر في جريمة الاغتيال؟ فاللجوء إلى الجنائية الدولية مشوب بعيوب المماطلة والكلفة الباهظة. مثلاً تقدمت الحكومة اللبنانية إلى الأمم المتحدة بطلبها لتأسيس محكمةٍ خاصة، فصدر قرار مجلس الأمن رقم ١٧٥٧ لعام ٢٠٠٧، وفي عام ٢٠٢٠ توصَّلت المحكمة إلى إدانة شخصٍ واحد فقط وتبرئة آخرَين، لتُدينَهما غيابيًّا في عام ٢٠٢٢. وقد تجاوزت كلفة المحكمة أكثر من مليار دولار دفع منها لبنان سنويًّا ٤٠ مليونًا، ناهيك عن هول الضغوطات السياسيّة التي تخلّلت مجريات التحقيق والمقاضاة.
وما زال قانون «ماغنيتسكي الدولي للمساءلة بشأن حقوق الإنسان»[iv] الأمريكيّ محدودَ التأثير، وقد صدر في نسختَين: الأولى سنة ٢٠١٢، أعلن فيها الرئيس أوباما فرض قيود على التأشيرة ضدَّ بعض المسؤولين الروس المتَّهمين بضلوعهم في مقتل ماغنيتسكي، وكان عددهم ١٨ مسؤولاً. ثمَّ أصدر الكونغرس الأمريكي سنة ٢٠١٦ النسخة الثانية منه، والتي تشمل إمكانية معاقبة مسؤولين وأشخاص متورِّطين في عمليات انتهاك جسيمة لحقوق الإنسان حول العالم، لكنه مازال محدود الأثر، وقائمته لا تتجاوز الـ ٦٠ شخصًا حول العالم.
في المقابل، وفي بيئةٍ استبداديّة، يتمُّ تجريم المعارضة العلنيَّة باعتبارها جناية سياسيّة. ونظرًا لغياب الفصل الفعليّ بين السلطات، يتحوَّل القانون العام والجنائيّ إلى مجرّد كلمات، لأسبابٍ كثيرة من ضمنها عجز القضاء أمام القوى السياسية والميلشيويّة المنضويَة تحت لواء أجهزة أمن الدولة، أو نكون أمام حالة تفريغ للدولة من القوانين كما هو الحال في سوريا، حيث تلجأ الدولة إلى الاغتيال كإجراءٍ إداريّ في مسار تصفيتها للمشتبَه بتحوُّله إلى خصمٍ سياسيّ.
يُضاف إلى ما تقدّم عيوب تحليليّة في علم الإجرام لتحديد شخصية الجاني في عملية الاغتيال، واضطرار القانون للالتزام بالشرط المادّي لتحديد الضحيّة، رغم أن مفهوم «الضرر» يتيح التوسّع للإلحاف بالجرم في كلِّيته. فالاغتيال بطبيعته يتجاوز مادِّيَّة القتل، بانتهاكه لكلّ ما كانت الضحية تمثِّله كجسدٍ وسيط للحقّ الجماعي في رفض الخنوع السياسي.
في المقابل، ينطوي الاغتيال على قاتلٍ فعليّ وآخر مستَتِر، ومعهم المحرِّضون والمدبِّرون للجريمة. هكذا يكون المجرم الحقيقيّ سلسلة هرميّة من المجرمين المتحصّنين في الحقل السياسيّ وعبر صراعات السلطة حيث يُقيم الآمرُ بالقتل. إذ يتوجَّب شملهم معًا بالقصاص العقابيّ ذاته للحؤول دون تحويل محاكمات الاغتيال إلى مسرحٍ للظل، تُطلَق فيه سهام العدالة على ظلال المجرم الفعليّ، ويُقدَّم للقضاء أكباشٌ مُعدّة للفداء لا يترتَّب على التضحية بها أيّة خسارة.
[i] ميشيل فوكو ، المراقة والمعاقبة، ولادة السجن. ترجمةعلي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت ١٩٩٠، ص٦٦.
[ii] أنطونيو كاسيزي ، القانون الجنائي الدولي، جامعة إكسفورد. الطبعة العربية، ترجمة مكتبة صادر، بيروت ٢٠١٥. ص١٠.
[iii] المرجع السابق، جزئية “إنشاء محاكم ذات طابع دولي أو مختلطة”، ص٤٧٨.
[iv] محاسب ضرائب روسي ساهم في كشف عمليات فساد ضخمة قام بها موظفو الضرائب لدى الحكومة الفيدرالية، الأمر الذي تسبّب في اعتقاله سنة ٢٠٠٨، ليتوفى جراء التعذيب في السجن بعد ١١ شهرا من اعتقاله دون محاكمة. فأصدر الرئيس الأمريكي أوباما قانونا باسم ماغنتيسكي سنة ٢٠١٢.
ارتبط مفهوم الاغتيال تنظيميًّا بجماعة الدعوة الجديدة الإسماعيليّة المعروفة باسم «الحشّاشين» في القرن الـحادي عشر، والتي تحصّنت في قلعة آلموت (عشّ النسر) في إيران. تحوَّلت هذه الجماعة إلى تعبير قاموسيٍّ مرادف لكلمة القاتل في عدّة لغاتٍ أوربيّة، وظهر اسمُها في النشيد الرابع عشر من الجحيم لدانتي (la perfido assassinto أي الحشّاش الخائن)، ونقلتها مصادر مختلفة قبل الرحالة ماركو بولو الذي زار قلعة آلموت وسرد عنها ما فهمه عنها عبر الترجمات.[i] فتعمّمت وترسّخت أسطورة القتَلة الفدائيّين في المخيلة الأوروبية، وترادف القتل في عبارة الاغتيال (assassinate) المستمَدّة من التسمية العربيّة لنبتة الحشيش (hashashin). أو ربّما من الفهم الخاطئ لدى بعض المترجمين حينذاك لكلمة assassin على أنها تشير إلى أتباع الحسن، أي السيّد حسن بن الصباح (١١٢٤-١٠٣٤)، مؤسّس حركة الحشاشين الإسماعيلية النزارية، والذي تأتي الإشارة إليه كتفسير لعمق انثروبولوجيّ يُضفي بصمته الثقيلة على واقع الإجرام اليوم.
لُقِّبَ حسن بن الصباح بـ«شيخ الجبل» وبـ «السيد حسن». كان على إلمام بفلسفة فيثاغورس وبالعلوم الشرعية، وخطيبًا ماكرًا ينوّم مريديه بالعهود والاحتيال على الانفعالات، محوّلاً معمار القلعة إلى تدرّجٍ في المكانة وفقًا للولاء الأعمى. وتوارى في خلوَته التي استمرّت مدة ٣٥ سنة حتى وافته المنية داخل القلعة، وبات حضوره ما فوق الحسي[ii] أساسًا لتعويم حضورِه الرمزيّ بالفتك. وكانت صفوَة مريديه نخبة القتلةَ، صدّقوا ما وعدهم «شيخ الجبل» به من ملذّات تُشترى بالولاء المطلق. فتمكّن من تفريغ ذات المريد المهيّأ لتلقّي إيعازات التنظيم وكأنّها تأتيه من داخله، فيُطيع دون أن يفكِّر. وبما أنَّ التنظيم والسيّد كانا واحدًا وبما أن هذا الأخير كان وسيطهم بين الدنيا والآخرة، لم يكن هؤلاء القتلة يأبهون بالعلاقات الإنسانية. فكان نظام الملك -وزير لدى السلاجقة -، وهو صديق السيِّد، من أوّل ضحايا: إذ تعاهد «شيخ الجبل» وصديقاه الشاعر عمر الخيام ونظام الملك على المساندة بمجرَّد أن يتسنّم أحدُهم منصبًا ما، غير أنَّ الوزير خاف من طموح صديقه فجرّده ممّا منحه إيّاه، ليهرب «شيخ الجبل» إلى القاهرة ويعودَ لاحقًا بالرعب المنظّم لحركة الحشاشين.
سنة ١١٦٤، تسلَّم قائد آخر قيادة الجماعة، وكان اسمه أيضًا حسن.[iii] انتشرت الحركة في بلاد الشام وانتهت كتنظيم على يد المغول، لتتغلغل كركن من أركان السلطة في المنطقة. وأُدمِج القتلُ في استراتيجيّات السلطة في عهد السلاطين العثمانيين الذي ابتكروا قانون «قتل الأخوة» حرصًا على العرش.[iv] ثم صدر قانون «القتل سياسة» الذي كانت أولى تطبيقاته قيام السلطان يلدرم بايزيد بقتل شقيقه، ومن ثمَّ قيام السلطان سليمان القانوني بقتل ولديه،[v] استطرادًا للممارسة المنحدرة من «شيخ الجبل» الذي لم يَتوانَ عن قتل أولاده طلبًا للطاعة المطلقة.[vi]
يأتي ما تقدّم معطوفًا على ثقافةٍ عامّة لا ترى في الاغتيال عارًا، بل وأحيانًا تُظهر القتلةَ كشهداء. حدث ذلك في مدنٍ سورية رَفعت صورالقاتل الشيشاني (Abdoullakh Anzorof) الذي ذبح المعلِّم الفرنسي صامويل باتي عام ٢٠٢٠، واعتبرته شهيد الأمّة. مرّت هذه الحادثة دون انتباه في ثقافةٍ خرساء أمام مشهدٍ اجتماعيّ في الشرق الأوسط لا يفتأ يكرِّر علاقته الولائيّة بطغاة لا يرون في القتل ضيرًا، كاشفةً بذلك عطبًا معرفيًا في ثقافةٍ لا تَدرس الإجرام ولا تَدخل السجون كمختبرات ميكروسوسيولوجية لإتمام قراءاتنا لمجتمعاتنا.
مثلاً جاء كتاب هادي العلوي «الاغتيال السياسي في الإسلام «بمقدِّمة تشرح نقطتين فحسب: الأولى أنَّ الاغتيال يتعارض مع قيم الفروسية الجاهلية القائمة على نبذ الغدر ونعتِه بشيَم الجبناء؛ والثانية أنَّ الإسلام يُدين الاغتيال شرعًا في الآيَة ٣٨ من سورة الحج،[vii] وما أَورده عن أبي داوود قولَه عن الرسول الكريم بأن «الإيمان قَيَّد الفتك، لا يَفتك مؤمن». فيما أتت بقيَّة الكتاب كتوثيق لسجلِّ جرائم الاغتِيال في التاريخ الإسلاميّ، والأمر ذاته يتكرَّر في مؤلّفات أخرى.
يشتغل ما تقدَّم كإكراهٍ تاريخيّ على استعادة الجذر المؤسّس لجريمة الاغتيال، بغاية إظهار المنظومة التي تعتمده كآليّة خصامٍ سياسيّ يُفضي فقط إلى الإرهاب، وتمييزًا لها عن عمليّات اغتيالٍ أخرى تقوم بها المخابرات الدوليّة في صراعاتها الأزليّة، كقانون Patriot Act الأمريكيّ الصادر عام ٢٠١١. جاء هذا القانون كاستمراريّة لقراراتٍ سرّية كانت تعتمدها وكالة الاستخبارات الأميركيّة عبر تجنيد قتلة مأجورين لاغتيال من تُصنّفهم أمريكا أعداء لها، من ضمنِهم كاسترو وسلفادور أليَندي، إلى أن وضع الرئيس فورد حظرًا على تنفيذِه عام ١٩٧٦. ناهيك بدخول الدرونات على خطّ تعويمِ الاغتِيال خارج فترات الحرب، كوسيلةٍ من وسائل تقويض المسارات القضائيّة الطبيعيّة لمحاكمة المتَّهمين. فما يَشغلنا ههنا، هو فقط عمليات الاغتيال التي تقوم بها جهة سياسيّة أو طائفة دينية ضدَّ جهة سياسية أخرى.
[i] برنارد لويس، الحشاشون/ فرقة ثورية في تاريخ الإسلام. ترجمة: محمد العرب موسى. مكتبة مدبولي، القاهرة. الطبعة الثانية، ٢٠٠٦، ص١٤.
[ii] فرانسوا مافال، أساسيات التعصب، ترجمة قاسم المقداد، دار نينوى للنشر، دمشق ٢٠١٧، ص٨٦.
[iii] المصدر السابق، ص٨٣.
[iv] أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة، ترجمة أورخان علي وعوني لطفي أوغلي، إصدارات وقف البحوث العثمانية. استنبول ٢٠٠٨، ص١٣١.
[v] المصدر السابق ص ١٣٢/ ١٣٩.
[vi] فرانسوا مافال. مصدر مذكور، ص٨٣.
[vii] هادي ال