إزاء أفلامٍ أجنبية، بعضها الأكثر رديء، في مقابل بعضٍ آخر أهمّ وأجمل (روائياً تحديداً)، لكنّه أقلّ، تُخصّص “ مساحة لسينما فلسطينية، من دون اعتمادها أسلوباً مُحدّداً في خياراتها. فالأهمّ، بالنسبة إليها، كامنٌ في انفتاح أكبر على الجغرافيا العربية، وهذا مُنفَّذ منذ أعوام قليلة، في خطّةٍ تستدعي خياراتٍ سينمائية عربية مختلفة.
الحرب الإسرائيلية الجديدة على قطاع غزّة والضفة الغربية، منذ “طوفان الأقصى” (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، تدفع إلى مُشاهدة/ إعادة مُشاهدة أفلامٍ فلسطينية، بالتزامن مع مشاهدة (“العربي الجديد”، 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)، تكشف رداءة يصعب وصفها. سينمائياً، ليست الأفلام الفلسطينية في “نتفليكس” جيّدة الصُنعة كلّها. فالعادي، كما الأقلّ من العادي، حاضرٌ إلى جانب الأفضل، بصرياً وجمالياً وأدائياً وتقنياً. هذا غير مانعٍ مُشاهدة/ إعادة مُشاهدة، تكون في هذه اللحظة تحديداً، انفعالية وعاطفية، والنقد حاضرٌ أيضاً، فأفلام فلسطينية عدّة تنحصر أهميتها بموضوع وحكاية، والخلل الفني والتقني والدرامي والجمالي عائقٌ، يُمكن تجاوزه في استعادة، تبغي “متعةَ” مُشاهدة، وإنْ تكن المواضيع والحكايات قاسية وحادّة.
من الأفلام الفلسطينية المعروضة في “نتفليكس”، منذ أشهرٍ طويلة، هناك “ملح هذا البحر” (2008) لآن ـ ماري جاسر، و”حبيبي راسك خربان” (2011) لسوزان يوسف، و”عمر” (2013) لهاني أبو أسعد، و”واجب” (2017) لجاسر أيضاً، (“ضفة ثالثة ـ العربي الجديد”، 22 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، و”200 م.” (2020) لأمين نايفه (“العربي الجديد”، 4 سبتمبر/ أيلول 2020)، و”فرحة” (2021) لدارين ج. سلاّم (“العربي الجديد”، 29 ديسمبر/ كانون الأول 2021)، وغيرها. اختيار هذه من دون غيرها، لكتابةٍ تمزج الانفعالي بالنقدي (هناك كتابات سابقة عن بعضها)، متأتٍ من رغبةٍ في تبيان/ إعادة تبيان شيءٍ من حيويةِ نصوصٍ سينمائية، في مقارباتٍ تكشف وقائع، وبعضها يقول، مواربة أو من دون قصدٍ ربما، شيئاً عن مُقبلٍ من الأيام.
كلّ شيءٍ في هذه الأفلام يُشير إلى غليانٍ، ينفجر بأشكالٍ مختلفة، أو يبقى انفجاره مؤجّلاً. أمْ أنّ الغليان المذكور مُخبّأ في مسام علاقات عائلية (“واجب” و”200 م.”)، وفي لحظة نكبةٍ (15 مايو/ أيار 1948) يُظَنّ أنّها واحدة، قبل إظهار الوحش الإسرائيلي عن تفوّقه على نفسه في القتل والإبادة، كأنّ الحاصل منذ “السبت الإسرائيلي الأسود” ة (النكبة الأولى حاضرةٌ في “فرحة”)؟ والحبّ؟ ألن يكون له متّسعٌ من مساحةٍ، رغم كلّ حدّ يفصل بين حبيبين، اجتماعياً وببطش الاحتلال، فـ”جدار العار” المبنيّ في فلسطين المحتلّة حاجزٌ بينهما، وبهاء الشباب دافعٌ إلى اختراقه، وإلى تشكيل فعلٍ مُقاوِم ضد المحتلّ (عمر)، وللجدار نفسه حضور قاتل في تفكيك عائلة، ترفض التفكيك وتواجهه قدر المستطاع (200 م.)؟
الحبّ مجدّداً، لكنْ هذه المرّة في قطاع غزّة (حبيبي راسك خربان)، والعشق قويّ، فقيس بن الملوّح (قيس الناشف) مُتيّمٌ بليلى (ميساء عبد الهادي)، في حيّز جغرافي غارق في اختناق الحصار الإسرائيلي، والسلطة الأبوية/ الذكورية، وتمدّد تفكير محافظ ومتشدّد.
استخدام تاريخٍ وذاكرة ركيزة درامية لمعاينةٍ بصريةٍ لواقعٍ، في راهنٍ غير محدّد زمنه فعلياً، مع إيحاءٍ بأنّه (الراهن) حاصل بعد نحو نصف قرن على إنشاء الكيان الإسرائيلي المحتلّ في فلسطين (ملح هذا البحر). فالشابّة ثريا (سهير حمّاد) تأتي إلى يافا، مدينة أجدادٍ وأهلٍ، لاستعادة ميراث قديم يودعه جدّها في “البنك البريطاني” قبل النكبة (1948). سيكون هذا سببٌ لبحثها عن/ في جذورها، فهي مولودة في بروكلين قبل سنين، وترغب في التعرّف إلى بلدها الأصلي.
أما فمتوافقٌ ونهجٍ، سينمائي وثقافي وأخلاقي وإنساني، مع مسارٍ لها ولشريكها في الحياة والسينما، الراحل جان شمعون (1944 ـ2017): التقاط نبض حياة يومية في بيئة فلسطينية، إنْ تكن في مخيّم لبناني، أو في بلدة فلسطينية. الهمّ الفلسطيني ركيزة، والتعاون مع أفرادٍ، يكونون شخصيات في أفلامٍ وثائقية، غير منتهٍ، غالباً، مع انتهاء الفيلم. هناك صداقة تنشأ، وتستمرّ.
الروائي هذا معنيٌّ بالهمّ نفسه، عبر رواية يوميات أسرى فلسطينيات في سجن إسرائيلي، والرواية “محكيةٌ” عبر ليال (ميساء عبد الهادي)، المُدرِّسة “المتّهمة” بمساعدة شابٍ فلسطيني مطلوب من الأمن الإسرائيلي، لمشاركته بـ”اعتداء” على حاجز عسكريّ، فتُزجّ بالسجن، ويُحكم عليها بالبقاء فيه 8 أعوام. ولأنّ المُدرِّسة ترفض “الاعتراف” بكذبة أنّ الثائر “يُجبرها” على مساعدته (فهذا غير حاصل أصلاً)، تجد نفسها في سجن يضمّ إسرائيليات وفلسطينيات في نابلس، عام 1980. محاميتها وزوجها يحثّانها على الكذب، لتنجو بنفسها من خطر الانزلاق في شقاء العيش اليومي في السجن، خاصةً بعد اكتشاف حملها. لكنّ التزامها الصدق في سرد الحكاية يحيلها إلى تجربة الصدام الدائم مع محيطَين، يتشابه أحدهما بالآخر، برفضهما إياها بدايةً، قبل أنْ يفتح أبوابه لها، بينما يستمرّ الصراع بينها وبين المحيط الإسرائيلي.