“الله فلك لا نهائيّ، مركزه في كلّ مكان، ومحيطه ليس في أي مكان”.
الفيلسوف الألماني نيكولاس من كوس (1401 ــ 1464).
نعتمد على الأدوات الرقميّة بشكل مستمر في حياتنا اليوميَّة. من دون “غوغل مابس” نحن ضائعون في هذا العالم. في الوقت نفسه، نادرًا ما نفهم كيف تعملُ هذه الأدوات الرقميّة المتطوُّرة. جهلنا قادمٌ من سببين: الأوّل، هو ملكية المعلومات وحصريّة الوصوليّة المقتصرة على الشركات الكُبرى، والثاني، هو أنّ فهم كيفية وصول أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى مجموعة معيّنة من المُخرجات والنتائج قد يكون مستحيلًا بالنسبة لشخصٍ معرفته متواضعة في هذا العالم. من الصعب فعلًا السكوت عن هذا الجهل المزمن ونقص القوة في ما يتعلّق بالأنظمة الرقمية المشفّرة.
كيف ينظر الفن إلى جهلنا أمام هذا العالم الرقمي المتطوُّر.
في غاليري “كوفي برلين” في العاصمة الألمانية برلين، يُقامُ معرضٌ جماعيّ من نوع خاص بعنوان “شعرية التشفير” (بدأ في 24 شباط/ فبراير الماضي، وسينتهي في 26 أيار/ مايو الجاري). المعرض بتنسيق نديم سمان، ويتناول تمامًا هذه الظاهرة، علمًا أن عنوان المعرض هو كتاب نشره نديم، ويقع في 245 صفحة. المعرض بدرجة أساسيّة يركّز على الغموض في عالم التشفير، ويرسم موقعًا خياليًا يتميّز بوجود عدد من المواقع السوداء، والصناديق السوداء، والثقوب السوداء. هذه المصطلحات تشير إلى طاقة جذب التكنولوجيا للمستخدمين بشكل مستمرّ، وكيف تعمل في الخفاء، وكيف تشوّه الزمان والمكان للمستخدمين. هذه الأفكار مبثوثة في عناصر مادية موجودة في طوابق المعرض الثلاثة، إذْ يبدو المرء في المعرض وكأنه ينتقل بين تنوير قلقٍ وحلم غامض.
“كيف هي الحياة في ظلّ هذه الكميّة الهائلة من البيانات؟ ماذا يعني موتنا الجسدي عندما تستمرُّ هويتنا الرقميّة في الحياة؟ كيف يقوم البشر بتحقيق التواصل عبر هذا العالم الشبكيّ الواسع؟”
يقترح كلّ فصلٍ من فصول المعرض نموذجًا خياليًا لمكان الإنسان الذي يستخدم وسائل التكنولوجيا الذكية، الإنسان الذكي المتجسّد في عالمٍ مليء بالأسرار الرقمية والآليات الخفية التي ليس له يدٌ فيها. مثلًا، ثمّة أعمال فنية مجمعة تحت عنوان “الموقع الأسود”، وهي تشير إلى حالة الانغلاق والاستقطاب والجهويّة في العالم الرقمي، الأشخاص المدفونون في عالمهم الرقمي، وكأنّ هواتفهم المحمولة قبورٌ تكنولوجية. الأعمال الفنية المعروضة تكشف كيف يصور الفنانون حالة العزلة الفكرية والسجن الذهني في المنتجات الاستهلاكية والصناعية في كلّ مكان. الأعمال الفنية التي تصوُّر حالة الحبس في الهاتف، تكشف أسرار عملية الأسر والاختطاف والدفن في هذا القبر التكنولوجي ــ الهاتف المحمول. كيف نجد أنفسنا لفجأة مسروقين من قبل هواتفنا، وصعوبة تهرّبنا من هذا الموقف. وفي سياق ذي صلة، يفكّر الفنانون في عمليات البحث والاسترداد من هذه المنفردة الرقمية.
السيرفرات الضخمة للشركات الكبرى هي العالم السفلي للتكنولوجيا. كلّ سيرفر هو بمثابة كوكبٌ ميكانيكيّ مُحاطٌ بمجموعةٍ من الأقمار الصناعيّة وأجهزة الاستشعار. بعض الأعمال الفنيّة تركِّز على البنية التحتيّة المظلمة للإنترنت، وترسم خريطة لهذه المتاهة التي تحمل ذاكرتنا وصورنا ورسائلنا لبعضنا بعضًا. كيف هي الحياة في ظلّ هذه الكميّة الهائلة من البيانات؟ ماذا يعني موتنا الجسدي عندما تستمرُّ هويتنا الرقميّة في الحياة؟ كيف يقوم البشر بتحقيق التواصل عبر هذا العالم الشبكيّ الواسع؟ كلّ سيرفرٍ ضخمٌ هو ثقبٌ أسود، إذْ يضم أرشيفًا رقميًّا فائق الكثافة، مدعومٌ بعمليّات خوارزميّة ضخمة. السيرفر يشوِّه المكان والزمان الثقافي للإنسان، وفي الوقت نفسه، تلتهمُ أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطوّرة الكون المعروف، وتدمّر كلّ أنواع الاختلاف فيها من خلال صهرها في بوتقة الشيفرة، أو كما يقول نديم سمان: “الحبس في الشيفرة”.
أخيرًا، نذكر أن المعرض ضم أعمالًا لأكثر من 40 فنانًا عالميًا من كلّ أنحاء العالم، واستمر تحضيره لأكثر من سنتين.