لا تزال قضية ترجمة العلوم من اليونانية إلى العربية في مطلع العصر العباسي مطروحة للبحث منذ القرن التاسع عشر، من دون أن نصل إلى إجابات شافية عن أسئلتها الكثيرة ومنها: هل ثمة رواية ثالثة لبدء ترجمة العلوم إلى العربية تختلف بشكل أو بآخر عن الرواية التي تبناها معظم مستشرقي القرن التاسع عشر، والتي تقول إن المترجمين السريان في مطلع العصر العباسي نقلوا إلى العربية علوم اليونان التي سبق أن ترجموها إلى السريانية، أو عن الرواية الأخرى التي تبناها نفر قليل من المستشرقين معتمدين على مرويات بعض المصنفين الفرس المسلمين في مطلع العباسي حول أسبقية الفارسية البهلوية على العربية في نقل العلوم عن اليونان والهند؟ وماذا عن دور العرب المسيحيين في هذه الحركة؟

تساؤلات
تقع الإجابة عن هذا التساؤلات في باب التكهنات، فنحن لا نملك اليوم الأصول السريانية ولا الفارسية للكتب التي قيل إنها كانت الوسيط المعرفي بين العربية وعلوم الإغريق القدماء، ولا نعرف من أين أتى اللاهوتيون المسيحيون العرب، كعمار البصري، وأبي قرة الحراني، وأبي رائطة التكريتي، وعبد المسيح الكندي، بهذه الذخيرة اللغوية في نصوصهم اللاهوتية؟ أهي اللغة العربية ذاتها، القابلة للاشتقاق وتوليد المصطلحات؟ أم هو جهد معرفي مجهول من العصر الأموي، لا نعلم عنه شيئا، وصل إليهم ولم يصل إلينا؟ ربما الاثنان معا، فاللغة العربية أثبتت حيويتها البالغة في الاشتقاق، وخير دليل على ذلك امتلاكها معجما فلسفيا مترجما في معظمه عن المصطلح اليوناني لا تملكه أي لغة أخرى، فاللغات الأخرى تستخدم المصطلح اليوناني كما هو ومن دون ترجمة، وما ذكرناه مثلٌ يدعم كفاءة العربية في هذا المجال.

ثمة إشارات في كتب التراث العربي لم تحظ باهتمام المستشرقين لأسباب شتى، تتحدث عن أن المحاولة الأولى لترجمة العلوم عن اليونانية تمت في أوج ازدهار الدولة الأموية، وفي رعاية من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، حيث ذكر الجاحظ (776- 868م) في كتابه “البيان والتبيين” أن خالدا بن يزيد كان “خطيبا شاعرا، وفصيحا جامعا، وجيّد الرأي، كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء”.

 

نقرأ في نسخة مخطوطة من كتاب الكيمياء لخالد بن يزيد يروي فيها أنه كان يقرأ الكتب باليونانية، وأنه تعلم صنعة الكيمياء على راهب مسيحي يدعى مريانس التقاه في نواحي بيت المقدس واستقدمه إلى دمشق ليتعلم منه. وفي ذلك يقول: “قرأت كثيرا من كتبهم وفسرت كلام بعضهم ببعض، فتميزت ولم أجد سبيلا إلى فهم ما أشاروا إليه حتى أحوجني ذلك إلى الخروج إلى مريانس، رغبة فيها والتماسا لمعرفتها، فأتيته وكتمته نسبي، ولزمت خدمته، فلما رأى معرفتي وحسن أدبي، وأني أهل لكشف سره، كشفه إليّ بألفاظ بينة تقرب إلى الفهم حتى إذا فعل ذلك وأظهر لي معاني الصنعة.. وأُخبِر أني مسلم وأني ابن ملك العرب، وبان له أمري، فقال ما الذي حملك على هذا؟ فقلت رغبة في العلم. قال انصرف الآن فقد قضيت وطرك، فانصرفت..”.

رؤى تعميمية
لنتجاوز هذا التفصيل في تاريخ حركة الترجمة العربية، ولنذهب إلى الرواية الأوسع انتشارا، والمقصود تلك التي تقول إن علوم اليونان نقلت إلى العربية من السريانية، وهي الرواية التي انتقدها قبل نحو عام البروفسور جورج صليبا في أحد برامج “البودكاست” السعودية الشهيرة، وجرَّت عليه سيلا من الانتقادات بزعم أنه يتبنى الفكر العروبي الذي ينفي تاريخ الأقوام الأخرى التي تشارك العرب سكناهم. وكما جرت العادة في مثل هذه المسائل المعرفية، تدخلت بعض الأوساط السياسية والحزبية المنتمية الى حركات قومية مستحدثة، وحولت المسألة إلى صراع سياسي حضاري بين “عرب غزاة جهلة”، و”سكان أصليين حضاريين” عانوا ولا يزالون يعانون من طمس تاريخهم الحقيقي.

تتغافل هذه الرؤى التعميمية عن أن جزءا مهما من أتباع الكنيستين، السريانية اليعقوبية، والسريانية النسطورية، وكذلك عن أن جزءا مهما من أتباع كنيسة الروم الأرثوذكس كانوا من عرب الشام والعراق الساكنين في هذين الإقليمين قبل الإسلام بقرون طويلة. وعلى عاتق هؤلاء قامت المحاولة الأولى لترجمة الكتاب المقدس إلى العربية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بحسب التواريخ السريانية التي ذكرت قصة البطريرك اليعقوبي المعاصر للفتوحات الإسلامية يوحنا أبي السدرات (توفي عام 648م) مع أمير حمص الصحابي عمير بن سعد الأنصاري.

وتؤكد تلك التواريخ أن من تولى ترجمة الكتاب المقدس هم مجموعة من الفقهاء العرب المتضلعين باللغتين السريانية والعربية من تنوخ وطيء وبني عقيل من أتباع الكنيسة السريانية. ولا نعلم عن أي لغة ترجموه، عن اليونانية أم عن السريانية؟ ففي رسالة البطريرك أبي السدرات إشارة إلى نسختين من الكتاب المقدس أحضرتا إلى الأمير عمير، واحدة يونانية والأخرى سريانية.

بختيشوع والبطريق
وإذا رجعنا إلى أصول المترجمين الأوائل في مطلع العصر العباسي فسنجدها تتوزع على منابت شتى، غالبيتهم الساحقة من المسيحيين، يعاقبة ونساطرة، وروم ملكيون، وأقلية منهم صابئة حرانيون. وكان أولئك المترجمون يعملون بمهنة الطب، ويشكلون عائلات متسلسلة يتوارث أبناؤها الطب والترجمة.

من أوائل المترجمين الأطباء جورجس بن جبرائيل وهو طبيب نسطوري من منطقة الأحواز عالج الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (714- 775م) ونال حظوة كبيرة لديه. ووضعه ابن أبي أصيبعة في عداد الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العبَّاس. ويقول إنه “أول من ابتدأ في نقل الكتب الطبية إلى اللسان العربي عندما استدعاه المنصور وكان كثير الإحسان إليه”، ولم يوضح ابن أبي أصيبعة من أي لغة نقل إلى العربية كتب الطب، ولكنه يقول في موضع آخر إنه ترك كناشا، أي كتابا مجموعا، نقله من السريانية إلى العربية حنين بن أسحق. وهذه الإشارة الأخيرة تدل على أنه لم يكن يجيد العربية بشكل يؤهله لنقل الكتب إليها. وقد كون جورجس هذا عائلة علمية اشتهر منها ابنه بختيشوع بن جورجس، وله من الكتب كناش مختصر بعنوان كتاب التَّذْكِرَة أَلفه لابنه جبرائيل بن بختيشوع، ولجبرائيل من الكتب “رسالة في المطعم والمشرب”، و”المدخل إلى صناعة المنطق”، و”كتاب الباه”، و”رسالة مختصرة في الطب”، و”كتاب في صنعة البخور” أَلفه للمأمون، ولجبرائيل ابن اسمه بختيشوع بن جبرائيل له كتب عدة في الطب، ومن هذه العائلة يوحنا بن بختيشوع. وعن هذا الأخير كتب ابن أبي أصيبعة “نقل كتبا كثيرة إلى السرياني، فأما إلى العربي فما عُرف بنقله شيء منها”. وخلاصة القول إن هذه العائلة اشتهرت بمهنة الطب ولم تشتهر بنقل كتب العلوم، وكانت عربية أبنائها ضعيفة إلى درجة عدم القدرة على الترجمة أو التأليف بالعربية.

تؤكد تلك التواريخ أن من تولى ترجمة الكتاب المقدس هم مجموعة من الفقهاء العرب المتضلعين باللغتين السريانية والعربية

العائلة الثانية التي يطنب المستشرقون في ذكر أفضالها على العربية في مسألة الترجمة هي عائلة البطريق، فهذا الطبيب الذي اختلف في أصله، واشتهر في أيام أبي جعفر المنصور، نقل إلى العربية بناء على أمر الخليفة المنصور “أشياء من الكتب القديمة، وله نقل كثير جيد، إلا أنه دون نقل حنين بن إسحاق”، بحسب تعبير ابن أبي أصيبعة الذي يضيف أنه وجد “بنقله كتبا كثيرة في الطب منها كتب أبقراط وجالينوس”. وللبطريق ابن يدعى يحيى أو ابن البطريق وكان، بحسب ابن أبي أصيبعة “لا يعرف العربية حق معرفتها ولا اليونانية، وإنما كان لطينيّا (لاتينيا) يعرف لغة الروم وكتابتها”.

مسيحيون عرب وصابئة
العائلة الثالثة التي اشتهرت بالترجمة من اليونانية إلى العربية عائلة حنين بن إسحاق، وهي عائلة عربية نسبا تنتمي الى بني عباد سكان الحيرة الأوائل، نسطورية ديانة، اشتهر منها حنين، وكان بحسب ابن أبي أصيبعة “عالما باللغات الأربع، غريبها ومستعملها: العربية، والسريانية، واليونانية، والفارسية”، ويقول إن نقله أي ترجمته في غاية من الجودة، ويذكر أيضا ابنه إسحاق بن حنين: ويقول إنه أيضا “عالم باللغات التي يعرفها أبوه، وهو يلحق به في النقل (الترجمة)، وكان إسحاق عذب العبارة فصيح الكلام، وكان حنين مع ذلك أكثر تصنيفا ونقلا وقد تقدم ذكر إسحاق وأبيه”. ومن هذه العائلة حبيش الأعسم، وهو ابن أخت حنين بن إسحاق وتلميذه، ويقول عنه ابن أبي أصيبعة “ناقل (مترجم) مجود يلحق بحنين وإسحاق، وقد تقدم أيضا ذكره”.

العائلة الرابعة المشهورة بترجمة علوم اليونان هي عائلة عالم الرياضيات سنان بن قرة الحراني، وهو عربي النسب صابئي الديانة من مدينة حران المشهورة، وقد تكونت من أبنائه وأحفاده على مدى أربعة أجيال عائلة اشتهرت بترجمة كتب الرياضيات والفلك، فابنه سنان بن ثابت عالم رياضيات وفلكي وطبيب، وحفيده عالم رياضيات وفلكي يدعى إبراهيم بن سنان، وابن حفيده طبيب ومترجم يدعى ثابت بن إبراهيم.

يضاف إلى هذه العائلات الأربع مترجمون كثر من مسيحيي الشام والعراق تفاوتت مستويات ترجماتهم مثل عيسى بن يحيى بن إبراهيم، وهو عربي عبادي على الأرجح تتلمذ على يد حنين بن إسحاق، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وأيوب الأبرش، وماسرجيس، وكان ناقلا من السريانية إلى العربية، ومشهورا بالطب، وابن شهدي الكرخي، وعرف بترجمته لكتاب “الأجنة” لأبقراط، والحجاج بن مطر، ونقل للمأمون، كتاب إقليدس في الهندسة، ويبدو أن ترجمته لم تكن جيدة إذ أعاد صياغتها من جديد ثابت بن قرة الحراني. وهناك ابن ناعمة عبد المسيح الحمصي، وزوربا بن مانحوه الناعمي الحمصي، وهلال بن أبي هلال الحمصي، وكان صحيح النقل ولم يكن عنده فصاحة، ولا بلاغة في اللفظ، كما يقول ابن أبي أصيبعة. واصطفان بن باسيل، وكان يقارب حنين بن إسحاق في النقل، إلا أن عبارة حنين أفصح وأحلى، وموسى بن خالد الذي ترجم كتبا كثيرة من الستة عشر لجالينوس وغيرها، وكان لا يصل إلى درجة حنين أو يقرب منها. وسرجيس الرأسعيني، من أهل مدينة رأس العين، نقل كتبا كثيرة وكان متوسطا في النقل، وكان حنين ابن إسحاق يصلح ترجمته، فما وُجد بإصلاح حنين فهو الجيد، وما وُجد غير مصلح فهو وسط. وكل ذلك بحسب ابن أبي أصيبعة.

منهجان في الترجمة
ينفرد المؤرخ الشهير الصلاح الصفدي في ذكر المنهجين اللذين اعتمدهما تراجمة العلوم في العصر العباسي. فالمنهج الأول هو ما يمكن تسميته “النقل الحرفي” وهو منهج اعتمده “يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية، وما تدل عليه من المعاني، فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها، وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه”. ويقول الصلاح الصفدي إن هذه الطريقة رديئة بوجهين: “أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها. الثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات”.

اضطلع العرب المسيحيون والصابئة بدور محوري بسبب إتقانهم العربية إلى جانب اللغات اليونانية والسريانية

أما المنهج الثاني في التعريب فهو “ترجمة المعنى”، إذ يقول الصفدي عن هذا المنهج إنه “طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت ألفاظها أم خالفتها”، ويعتبر أن هذا المنهج أجود “ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيما بها، بخلاف كتب الطب والمنطق الطبيعي والإلهي، فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى الإصلاح، فأما إقليدس فقد هذبه ثابت بن قرة الحراني وكذلك المجسطي والمتوسطات بينهما”، بحسب تعبير الصلاح الصفدي.

يمكن الاستنتاج من كل ما سبق أن حركة الترجمة كانت واسعة ومترامية، وساهمت فيها جميع المكونات التي كانت تتكون منها الدولة العباسية، وقد اضطلع العرب المسيحيون والصابئة فيها بدور محوري بسبب إتقانهم العربية إلى جانب اللغات اليونانية والسريانية، وهذا ما لم يتوافر لباقي المترجمين والنقلة من غير العرب الذي عاب عليهم المؤرخون والمصنفون القدماء ضعف لغتهم وتعبيرهم.