منذ اليوم الأول للحرب في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أعطت الولايات المتحدة الأولوية للمستوى العسكري في تحرّكها في اتجاه أخطر أزمة تواجهها منذ عقود في الشرق الأوسط، فكان إرسال حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و “دوايت أيزنهاور” إلى أسراب من مقاتلات “إف-35” و “أف-16” و “أي -10” فضلاً عن نشر 2000 جندي من المشاة أتبعتهم بـ 900 جندي آخرين.
المرحلة الثانية التي عملت عليها الولايات المتحدة عبر زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن ومن قبله وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومن بعده وزير الدفاع لويد أوستن، هي العمل على ضمان عدم توسّع الحرب لتضمّ أطرافاً أخرى.
بعد هذه الاندفاعة الأميركية القوية للتعامل مع الوضع الناشئ، بدأت تلميحات أميركية إلى أنّه لا بدّ من فتح أفق سياسي في مرحلة ما بعد الحرب، على رغم أنّ المسؤولين الأميركيين يدركون أنّه في هذه المرحلة كل كلام في السياسة لن يكون مقبولاً في إسرائيل.
في هذه الأثناء، تركت واشنطن لوسطاء تقليديين مثل قطر ومصر، العمل على ملف تبادل الأسرى والرهائن، على رغم أنّ بدء إسرائيل مرحلة الغزو البرّي وتكثيف القصف وسقوط المزيد من الضحايا الفلسطينيين وإزالة مربّعات سكنية بحالها على غرار ما حدث في جباليا، لم يكن عاملاً مساعداً لهذه الناحية.
وحتى الضغط الأميركي المكثّف لم يفلح في السماح بفتح معبر رفح لإخلاء الأجانب ومزدوجي الجنسية من القطاع، إلاّ الأربعاء الماضي وبعد مجزرة جباليا التي حرّكت الرأي العام العالمي ودفعت بالمعترضين على الحرب إلى الشوارع في العواصم الأوروبية وفي الولايات المتحدة، التي اقتحم المتعاطفون مع غزة القاعة التي كان يُدلي فيها بلينكن بشهادته أمام لجنة من الكونغرس الثلثاء الماضي.
مثل هذا الوضع المتصاعد من الاحتجاجات الذي يترافق مع استخدام غير متناسب للقوة في غزة وسقوط أكثر من 10 آلاف شخص، ثلثاهم من الأطفال والنساء، بدأ يفرض على المسؤولين الأميركيين التكلم في السياسة. وتأتي جولة بلينكن الحالية في سياق استكشاف احتمالات مرحلة ما بعد الحرب في غزة.
بلينكن اقترح الثلثاء الماضي أن تتولّى السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في غزة بعد الحرب، وسط مداولات كثيرة عن اليوم التالي لصمت المدافع.
وكان هذا التلميح الأول لما قد تفضي إليه الوساطات الجارية حالياً، سواء في ملف الأسرى أو على صعيد التوصّل إلى هدنة إنسانية، تتيح دخول كميات معتبرة من المساعدات الإنسانية إلى غزة، لا سيما مادة الوقود الضرورية، لإبقاء ما تبقّى من مستشفيات قيد العمل، بعدما أجبر نفاد الوقود أكثر من ثلثها على الخروج عن الخدمة.
وهكذا تتداخل ملفات غزة، لكن لا بدّ من بداية تبدأ مع خفض التصعيد وتحقيق اختراق على صعيد المساعدات الإنسانية وملف تبادل الأسرى.
البديل عن خفض التصعيد سيكون الذهاب إلى تصعيد إقليمي يخسر فيه الجميع. ومن هنا لم يعد مقبولاً أن ترفض الولايات المتحدة العمل على وقف للنار، ومن ثم البدء في الوسائل الأفضل التي توصل إلى إحياء العملية السياسية وصولاً إلى حل الدولتين.
وهذه هي الصين تؤكّد على لسان وزير خارجيتها وانغ يي، أنّ الوقت قد حان من أجل الدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط. وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أكّد منذ اندلاع الحرب، أنّ الحل الدائم لن يكون متاحاً إلاّ بحل الدولتين ونشوء دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
إنّ الحرب وحدها لن تحلّ قضية عمرها 75 عاماً. ومن دون عملية سياسية جدّية لن يكون في الإمكان تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. ويمكن للولايات المتحدة أن تحوّل التحدّي الجديد الذي يواجهها في الشرق الأوسط، إلى فرصة نحو حلّ مُستدام. فهل تفعل؟