يعد نص مسرحية الشاعر الأفريقي/ المارتنيكي إيمي سيزير “فصل في الكونغو” (كتبها في عام 1966)، واحدة من سلسلة أعمال سيزير المسرحية المهتمة بمقاومة الاستعمار ، فكرة وواقعاً، في الكونغو وغيرها من البلدان الافريقية ويتناول هذا النص كفاح الأفريقي الكونغولي الأممي باتريس لومومبا ضد الاستعمار البلجيكي، واغتياله على أيدي عملاء هذا الاستعمار، عقب التحرر ومحاولات إقامة دولة حرة مستقلة. وقد صدرت الترجمة العربية للنص أخيراً ضمن سلسلة “من المسرح العالمي” (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت). وقام بترجمتها عن اللغة الفرنسية محمد الجرطي، وقدم لها سعيد كريمي بدراسة نقدية مطولة. وهذه مناسبة لتناول جوانب من سيرة هذا الكاتب المبدع
إيمي سيزير، الشاعر والكاتب والسياسي الفرنسي/ الأفريقي الأصل، الذي ولد في 26 يونيو (حزيران) 1913 في باس بوانت، خاض صراعات طويلة مع الاستعمار، على غير صعيد، في الشعر كما في النضال السياسي الصعب، وتوفي في 17 أبريل (نيسان) 2008، في فور دو فرانس، بعد صراع طويل مع مرض القلب. ومن يراجع سيرة حياته وإنجازاته الأدبية والفكرية، كما يظهر في العمل الذي أنجزته عنه الباحثة الفرنسية المتخصصة بشعره كورا فيرون سيجد فيها كثيراً من المحطات ليس في الإمكان الخوض فيها هنا.
لعل من بين أبرز هذه المحطات انتماؤه اليساري فكرياً، والسوريالي أدبياً، وهو ما نجده في إبداعاته المتنوعة، ففي مجال الكتابة للمسرح نجد “تراجيديا الملك كريستوف” (1963 حول الاستعمار) و”موسم – أو فصل – في الكونغو”. وفي الشعر له “الأسلحة العجائبية” و”الشمس المقطوعة العنق”، وغيرهما، كما كتب نثراً أدبياً وسياسياً، ونشرت له كتب عدة أبرزها “خطاب حول الاستعمار” الذي مثل صرخة تمرد في وجه الغرب “القابع على أعلى كومة من جثث الإنسانية”، وصدرت له كذلك “رسالة إلى موريس توريز”، وتوريز هذا هو أمين عام سابق للحزب الشيوعي الفرنسي.
تيار الزنوجة
ويعد سيزير إلى جانب السنغالي ليوبولد سنغور أحد أبرز وجوه تيار “الزنجية” (الزنوجة) في الشعر الفرنكوفوني، وكذلك نظرية ما بعد الكولونيالية في الأدب الفرنكفوني أيضاً، الكولونيالية التي يصفها سيزير بأنها “هي عارنا في القرن الـ20”. هذا التيار الذي أسهم في تأسيسه ورعايته منذ وقت مبكر في تجربته الإبداعية والسياسية، وظل قادراً على الدفاع عن الاحتفاظ باستقلالية وطنه وحريته السياسية والثقافية، ومتابعة تطوره على المستويين الشعري والسياسي.
وقبل الوصول إلى عالم سيزير المسرحي يجدر بنا الوقوف على ثقافته ونظرته إلى الثقافة، ابتداءً، نتحدث عن الإسهامات الثقافية والإبداعية، الأدبية والفنية لرواد مدرسة “الزنوجة” من خلال كتابات وأعمال سيزير والشاعر وسنغور، وتجاربهم في المسرح الأفريقي، ومنها محاولة بناء مسرح وطني حداثي الشكل والمضمون، في خضم تناقضات ما بعد الاستعمار، لكن الأهم هو انتصار سيزي لمبدأ الإبداع أولاً، وانتصار هذا المبدأ على حساب الشعارات، وربما كانت علاقته بالسوريالية، من خلال علاقته المعروفة مع أحد أبرز رموز هذه الحركة، أعني أندريه بروتون، والمقدمة التي كتبها هذا الأخير لأحد كتب سيزير.
يقول بروتون في المقدمة التي كتبها لديوان إيمي سيزير الأول “كراس العودة إلى أرض الوطن”: هي مصادفة سعيدة، حيث كنت في دكان لشراء حبسة شعر ملونة لابنتي، فتصفحت منشوراً معروضاً في الدكان، حيث اشتريت حبسة الشعر، فكان العدد الأول الذي صدر في عاصمة المارتينيك “فور دي فرانس” لمجلة “مدارات” بدأت قراءة المجلة بحذر شديد لم أصدق عيني، فما يقال هنا هو ما يجب أن يقال، تمزقت كل تلك الحجب البغيضة التي تحجب الحقيقة، تشتت كل ذلك الكذب، كل ذلك الاحتقار سقط مزقاً. اسم من كان يتكلم: إيمي سيزير.
ويضيف بروتون: خلف هذه المجزرة يوجد بؤس الشعب الاستعماري، واستغلاله الوقح بواسطة حفنة من الطفيليين الذين يتحدون حتى قوانين البلاد التي ينتسبون إليها ولا يحسون بأي حرج من أن يكونوا عاراً عليها، يوجد خضوع هذا الشعب الذي يقف ضده أنه ظل دوماً بعيداً منثوراً على البحر. خلف كل هذا، توجد، على مسافة أجيال قليلة، العبودية، وهكذا ينفتح الجرح من جديد، ينفتح على كل عظمة أفريقيا الضائعة، وذكريات الأسلاف عن المعاملات الوحشية التي تلقوها، وعي حاد بإنكار مطلق للعدالة كانت شعوب بأكملها ضحية له. شعوب بأكملها ينتمي إليها ذلك الذي سيسافر، غنياً بكل ما يمكن للبيض أن يعلموه.
مسرح متميز
في تقديمه هذا النص، الكتاب خصوصاً، وعن مسرح سيزير عموماً، يقول سعيد كريمي “وقف سيزير على الفنيات المسرحية الحديثة، ونقلها إلى بلاده، فألف عدداً من المسرحيات التي استعملها بوصفها استراتيجية لإبراز خصائص الزنوجة، وتوظيفها باعتبارها خطاباً مضاداً للمقولات الاستعمارية، وذلك من خلال الاشتغال على آليات جعلته يغاير الصورة الغربية عن أبناء المستعمرات، كما تم الترويج لها، ويظهر الأوروبي دائماً بشخصية المتسلط الغازي الذي يعجز دائماً – أيضاً – عن كسر روح المقاومة الأفريقية، لذلك كان المسرح من أكثر الأنماط الأدبية والفنية التي حوربت من قبل الاستعمار…”. وبناءً على هذه الرؤية، فقد شكلت “نصوص سيزير المسرحية، على قلتها، تراجيديات عميقة، تسير على خطى التراجيديا الإغريقية، وتعد الآن من كلاسيكيات المسرح الفرنسي”.
أما هذه المسرحية، التي نحن في صدد التركيز عليها، فإنها تتناول الفترة الأخيرة من حياة المثقف التقدمي لومومبا الذي – بحسب التقديم – أسس الحركة الوطنية الكونغولية سنة 1958، وقاد ثورة تحرير بلاده من الاستعمار البلجيكي، وكيف قامت كل من فرنسا وبلجيكا بمؤامرة اغتياله. وبداية فإن المسرحية تنطلق من لحظة استقلال الكونغو، ومن خلال شخصيات مسرحية ذات طابع تهريجي فانتازي، تبرز الجانب الفني الذي يبرع به المؤلف. فمنذ المشهد الأول في هذا النص التراجيدي يضعنا سيزير أمام عدد من الخطباء، أولهم “الخطيب المخادع” الذي يقدم للجمهور صورة ساخرة عن الخيرات التي يقدمها المستعمر “هناك الجعة، اشربوا… أليست هذه هي الحرية التي يتركونها لنا؟”، على سبيل المثال.
وبما أن المسرحية تتعلق بالمصير المأسوي للومومبا، فإن مشهد اختطافه واغتياله يمثل ذروة العمل، ففي جو درامي تراجيدي يصور سيزير اللحظات الأخيرة من حياة هذا الرجل خلال رفضه أساليب الترغيب والترهيب التي استخدمها المستعمر، ولكنه سقط جراء الخديعة التي استخدمها عملاء الاستعمار، ولينتهي باغتياله فصل من تاريخ الكونغو التي كانت تنال حريتها من المستعمر البلجيكي.
نحن هنا حيال عمل مسرحي سياسي بامتياز، هدفه الأساس تعرية أساليب الاستعمار في تدبير المؤامرات والتصفيات الجسدية، لكنها في الوقت نفسه تنطوي على قدر من الجماليات والتقنيات، تتبدى في الحوارات، وكما يقول كريمي في تقديمه لهذا العمل فقد “كانت اللغة الفرنسية من العناصر الأساسية والمميزة للكتابات الزنجية لدى سيزير، فاللغة عامل أساس يكتسي الأهمية نفسها كالجنس في وسائل الاتصال والثقافة والصراع”. ومن جهة ثانية فقد “أثرت كتابات سيزير في الأدب الفرنسي، وميزته عن كتاب اللغة الفرنسية من أصول فرنسية، فقد استطاع أن يحمل إلى هذه اللغة موروثه الشفاهي بما فيه من ثراء خرافي وبعد فكري، بعمق وجودة مكَّنتاه من احتلال مكانة مرموقة في تاريخ الأدب الفرنسي”.
ويختم سيزير عمله هذا بصرخات “الجمهور”، بعد الانتهاء من حفل القضاء على لومومبا، خصوصاً من قبل السلطات البلجيكية ومسؤوليها الذين يعلنون أنهم أبرياء من دمه، فهم طالبوا بإزاحته فقط وليس بقتله. هنا ينطلق صراخ الجمهور “المجد لباتريس لومومبا. المجد الخالد للومبا”، وينتهي النص بخطاب المؤلف نفسه حول الفكر الكولونيالي الذي جرى تكريسه بشكل كبير بين الكونغوليين “بخاصة النخب الحاكمة التي رضعت من ثدي بلجيكا، وتعلمت أبجديات التسلط والقمع، ولم تعد ملزمة التدخل المباشر في دولة الكونغو، بل عهدت بهذه المهمة إلى النظام العسكري وزبانيته لتكميم الأفواه الحرة…”.