كانت تلك السنوات الذهبية هي السنوات التي كان فيها كل أدب يحسب نفسه تقدمياً ويسعى إلى تغيير العالم، واقعاً تحت سلطان الكاتب الروسي الكبير غردكي قبل انكشاف الموقف السلبي الذي باتت السلطات الستالينية تتخذه تجاه هذا الأخير، وفي الأقل بسبب اعتبارها إياه حاملاً إرثاً لينينياً لا تستسيغه كثيراً. وكان أدب غوركي الذي يوصف بـ”الادب البروليتاري ” يعتبر نموذجاً يحتذى بالنسبة إلى الكتاب الشبان في عدد كبير من بلدان كان ذلك الأدب يترجم إلى لغاتها. ومن هنا، لم يكن غريباً أن من بين أولئك الشبان سيطلع كاتب شاب كان حينها بالكاد تجاوز الـ20 من عمره ويعيش ويعمل في منطقة برازيلية نائية، ليبدأ حياته الكتابية، وبالتوازي مع حياته العملية المتزامنة مع بؤس أوضاعه المادية، لينطلق في مسار أدبي يحاول أن يقلّد المعلم الروسي الكبير. ولا سيما في روايتين قصيرتين نسبياً ستشكلان بداية كبرى لأدب “الواقعية الاشتراكية” على الطريقة التي تجمع بين جوزيف ستالين وغوركي في بوتقة واحدة. كان ذلك في الأعوام الأولى من ثلاثينيات القرن الـ20، مباشرة قبل محاكمات موسكو، وكان اسم الكاتب امادوا أما الروايتان فهما “سيور” التي كانت روايته الأولى، ثم تحديداً “كاكاو” التي ستكون الثانية، لكنها ستحدث ذلك الخرق الكبير في المشهد الأدبي البرازيلي وتطوّب صاحبها واحداً من ألمع كتاب جيله ولا سيما إذ صنفها ثلاثة أو أربعة نقاد شيوعيين ذوي نفوذ، “رواية بروليتارية” وأشاروا إلى استلهامها مكسيم غوركي في مجرى الحديث عنها.
نجاح مفاجئ
ومع ذلك، لا شك أن رواية “كاكاو” كانت رواية تحكي فصولاً من حياة كاتبها ونضالاته في مسيرة عيشه وتنقله بين مناطق عدة من ولاية باهيا مسقط رأسه بلغة تنطلق من راوٍ ذاتيّ لتلك الحياة لكنها تجعل منه نموذجاً حياً لكفاح “المعذبين في الأرض”. وحسبنا هنا أن نذكر أن 2000 نسخة قد بيعت من تلك الرواية خلال 40 يوماً من إطلاقها ما أدى إلى صدور طبعات تالية لها، حتى ندرك أهمية ذلك الحدث من ناحية في حياة أمادو، ومن ناحية ثانية في الحياة الأدبية البرازيلية، غير أن علينا هنا أن نخفف من حماستنا لنذكر أن تلك النسخ إنما بيعت على ضوء ما كتبه النقاد التقدميون عن الرواية في بعدها السياسي، لكن تلك لن تكون الحال بعد ذلك. فالروايات التي قد يزيد عددها على ثلاث دزينات، والتي سيصدرها ذلك الكاتب خلال ما يزيد على نصف قرن، بعد ذلك سوف تقرأ لذاتها لا لدلالاتها الأيديولوجية وذلك على رغم قطيعة أمادو من الحزب الشيوعي البرازيلي منذ عام 1956، إسوة بما فعل المئات بل الألوف من كبار المبدعين العالميين احتجاجاً على غزو السوفيات المجر وما شابه ذلك من ممارسات كشفت عن خيبات أمل كثيرة. غير أن هذا ليس موضوعنا هناحياة مناضل مبكر
موضوعنا هو تلك الرواية التي كتبها فتى الـ20 الخارج لتوّه من المراهقة يصف فيها حياته التي عاشها حتى ذلك الحين، بصيغة الراوي، كما أشرنا، ولكن من خلال بطل له سنه نفسها، تابعت الرواية فصول حياته وانغماسه في العمل والنضال السياسي. والحقيقة أن الكاتب كان من التواضع بحيث أنه حين سئل عن روايته تلك بعد عامين من نشرها، عام 1931، قال في حديث صحافي هو الأول الذي أجري معه في ريو دي جانيرو حيث صدرت الطبعة الأولى من “كاكاو”: “لقد حاولت أن أروي في هذا الكتاب، بحدّ أدنى من الأدب، ولكن مع حدّ أعلى من النزاهة، الحياة التي يعيشها العمال الذي يشتغلون في مزارع الكاكاو في الناحية الجنوبية من ولاية باهيا. ولست أدري ما إذا كان ما أرويه قد أسفر عن صدور رواية بروليتارية”. والحقيقة أن نقّاد تلك المرحلة الذين كتبوا عن الرواية وحيّوا صدورها وموهبة كاتبها أجابوا على تساؤل هذا الأخير بـ “نعم… لقد أبدع هذا الشاب الموهوب رواية بروليتارية”. أما القراء الذين استمتعوا بقراءتها، فإن معظمهم قرأها كعمل أدبي بديع يعدّ بمستقبل كبير لكاتبها. ويقيناً أن هؤلاء الأخيرين كانوا على حق في ما لم يخطئ الأول كثيراً.
بين الكاتب والراوي
ففي نهاية الأمر، من الواضح أن “كاكاو” تستعير من حياة كاتبها الكثير من العناصر التي ألبسها هذا الكاتب لـ”أناه – الآخر”، وهو الراوي الذي سيعيش الحياة نفسها التي سنعرف لاحقاً أنها حياة جورج أمادو الذي نُخبر منذ الصفحات الأولى بأنه كان يعيش في ظل أبيه حياة عائلية مريحة نوعاً ما، لكن وفاة ذلك الأب الكريم أدى إلى انهيار تلك الحياة ولا سيما إذ استولى شقيق الأب على المصنع الذي كان الأب قد أنشأه، وأمّن لأسرته ولعدد كبير من العمال، حياة كريمة، وللفتى نفسه دراسة لا بأس بها ومظهراً جعل صديق طفولته يسخر منه مطلقاً عليه لقب “ابن الأغنياء”. لكن ذلك سيصبح من الماضي بسبب رحيل الأب وجشع العم. وبهذا انطلق راوينا وقد أضحى معدماً، في محاولة منه لتصحيح شؤون أمه وأخته من دون أن يجد غير التحول إلى عامل في مزارع الكاكاو بعيداً من مدينته وأسرته طريقة لبلوغ ذلك والتعويض على ما كان الأب يشكله من رفاه للعائلة. وطبعاً لن يتمكّن الراوي من ذلك، وإن كان سيستبدله خلال سنوات شبابه المبكر ذلك باكتشافه الحياة الحقيقية التي تعيشها الطبقة العاملة الآتية غالباً من بلاد بعيدة جماعات من السود أو من الخلاسيين أو حتى من أهل البلاد الأصليين. وتلك الجماعات إذ يختلط الشاب بها ستقوده إلى خوض نضالات سياسية هي التي تشكل جزءاً من موضوع الرواية. ولكن لأن الكاتب الذي كان يدوّن ذلك كله بدا منذ كتاباته الأولى فائق الموهبة، لن يعيش أبطاله حياتهم السياسية والنضالية التي يعد بها “الأدب البروليتاري” قراءه، بل ثمة في الرواية صفحات بديعة عن الصداقة واللهو والحب والتمتع بملذات الحياة من رقص وغناء وسمر ونواد ليلية وقمار وصولاً إلى ارتياد المواخير. وذلك من خلال رفقة طيبة أحياناً وغير طيبة في أحيان أخرى تصحب الراوي في حياته اليومية.
“الأتراك” يكتشفون أميركا
والحقيقة أن اعتناء الكاتب بتوصيف تلك الحياة والرفاق الطيبين أو حتى غير الطيبين، الذين يرافقون راوينا في حلّه وترحاله، مكّنه من أن يعود إليهم وأحياناً بأسمائهم نفسها، في عدد كبير من رواياته التالية، ما أقام نوعاً من تقاطعات بين تلك الروايات أسبغت على أدبه نوعاً من وحدة في الموضوع ووحدة في الأسلوب ظل يرافقه ويطبع أدبه حتى في بعض أهم رواياته الكبرى وصولاً حتى إلى واحدة من رواياته الأخيرة، “كيف اكتشف الأتراك أميركا”، التي كتبها أول الأمر على شكل تحقيق حول مهاجرين أحدهما سوري والثاني لبناني يصلان إلى أميركا اللاتينية في وقت مبكر، أي أيام كان القادمون مهاجرين من بلاد الشام يحملون الجنسية العثمانية، ما يفسر عنوان الرواية، ونعرف أنه حوّل ذلك التحقيق الذي كتبه ونشره في عام 1992 لمناسبة الذكرى الـ 500 لما يسمى “اكتشاف أميركا” إلى رواية لاحقاً. ولقد استقبلت هذه الرواية باحتفاء كبير حتى وإن رأى كثر أنها لا ترقى إلى مستوى روايات كبيرة له جعلته طوال مسيرة تواصلت نحو ثلثي قرن من الإبداع الروائي، كاتب البرازيل الأول من دون منازع.
وصولاً إلى السينما المصرية
ولا بدّ من أن نذكر هنا أن القراء العرب قد تعرفوا على أدب أمادو مترجماً إلى العربية حتى قبل سنوات من ظهور فورة الأدب الأميركي اللاتيني. ولقد كان من أبرز ما عرفه أولئك القراء من أدبه، “أرض ثمارها من ذهب”، و”قباطنة الرمال”، و”غابرييلا”، و”كان كان العوام”، و”البحر الميت”، و”عودة الابنة الضالة”، و”تيريزا باتيستا”، و”دونا فلور وزوجاها”. وهذه الرواية الأخيرة حولت كما حال العديد من روايات أمادو مرات عدة إلى فيلم سينمائي شاهد نسخته البرازيلية أكثر من 12 مليون مشاهد في عروضه الأولى. كما أن المخرج أسامة فوزي والمنتج والممثل محود حميدة المصريين، اقتبساها عام 1999، في فيلم مصري حقق بدوره نجاحاً كبيراً.