تدخل الغرفة بهدوء، وتتخذ لها مكاناً بجانب مدفأة المازوت الصغيرة. الكهرباء مقطوعة، والمدينة غارقة في ظلام دامس منذ عقود.
كانت الغرفة مُضيئة بضوء بعض الشموع الصغيرة المُنتشرة في أرجاء الغرفة. المُثير للاهتمام أنَّه لم يعد سكان هذه المدينة يستخدمون الشموع، فقد تكون مُكلفة ربما، أو غير عمليّة بالأحرى، إذ أنَّ أزمة الكهرباء مُستمرة منذ سنوات طويلة.
تحاول مُطالعة رواية لروائيّة محلية، إلّا أنَّها لا تستطيع. فالضوء خافتٌ جداً. تتفقد إبريق الشاي الموضوع على المدفأة، فتجد الشاي ساخناً بما فيه الكفاية. تتناول كوباً من الشاي، وهي تبحث في هاتفها السامسونج عن أغنية جديدة. لا يُعجبها في اليوتيوب شيء. تعود إلى الطرب القديم. ربما ما عاد صوت أم كلثوم، وألحان بليغ حمدي، وعود فريد الأطرش، وحزن محمد شيخو، وصراخ شفان، ونشوة جوان حاجو أيضاً يعجبها؛ إذ أنَّها تضع الهاتف جانباً، وتحاول أن تجد شيئاً يُسلي وحدتها. يُطرق الباب، تهم بالخروج وتنادي: من الطارق؟
أنا، أنا باران افتحي الباب.
ليلان: لماذا تأخرت أيها الفتى الشقي؟
باران: الحاجز. أوقفتني الشرطة العسكريّة على الحاجز، وطلبوا مني البطاقة الشخصيّة. قال لي أحدهم: عليك مراجعة مكتب واجب الدفاع الذاتي في أقرب وقت. كنتُ محظوظاً جداً، فقد كان الضابط لطيفاً جداً، ولم يأمر باقتيادي إلى إحدى الوحدات العسكريّة في الحال.
ليلان: ماذا أقول لك؟ الحمد لله على السلامة، أم تباً له؟
باران: ما بكِ؟ لقد أخبرتُكِ فقط بما جرى معي للتو وأنا في الطريق إليكِ.
ليلان: دعنا من واجب الدفاع الذاتي، ومن الحرب والثورة والسياسة والأمة الديمقراطيّة الآن، ومَتّع الروح المُتعبة ببعضٍ من الغزل الجميل، على أن يكون غزلاً جديداً غير مُكررٍ ومُستهلك.
باران: هل الشاي ساخن؟
ليلان: نعم، تفضل. وماذا تريد بعد؟
باران: أريد أن أراكِ بشكل أفضل، ورغيف خبز. أكثري من الشموع.
ليلان: حسناً. يا ليتهم أخذوك في الحال.
باران: ومن سيقول لكِ كلاماً جميلاً إن حملتُ بندقيةً ورحلت؟
ليلان: هيا، أتوق لسماع كلامِكَ الجميل. ماذا ستفعل لهذا الوطن إن أخذوك إلى الحرب؟ أنا وطنك!
باران: هيا إذاً رتبي المكان من جديد، ودعيني أنعم بصوتك بعضاً من الوقت.
ففي صوتكِ الشيءُ الكثير من الرقة والعفة. فيه طفولةٌ قديمة.
ليلان: لا أدري ما أقول.
باران: لا داعي للكلام، فصمتُكِ أبلغ من كل النصوص، وأشد وقعاً من كل صوت قد يُعلى.
في صوتكِ هدوءٌ لا يُعرف مصدره، كما وفيه صراخٌ مُمتعٌ، لا يُدركه المُستمع البسيط، الذي لا يكترث لأصواتٍ غريبةٍ من هذه الأرض.
صوتكِ مؤلمٌ في بعض الأحيان، إلّا أنَّه بريءٌ كثيراً كبراءة الذئب من دم يوسف.
ليلان: ما هذا الغزل يا رجل؟
باران: غزلٌ مَشْروع، وصوتٌ ربما أحتاج لشعور إضافي حتّى أعطيه حقه الطبيعي من المديح.
ليلان: وهل قلت هذا الكلام لأحدٍ من قبلي؟
باران: هو لكِ وحدك دون الآخرين. فالآخرون مُنشغلون بكلامٍ مجانيٍ رخيص يُعاد إنتاجه في كل وقت.
جمال صوتكِ فصيح، وجمالكِ بليغ، وقصيدتك لم تُكتب بعد.
هل لي أن أكمل كتابة هذه القصيدة حتّى ينال من جمال صوتك المديح، ويتعب الغزل؟
ليلان: لك ما تُريد.
باران: أريد أن أمارس حقي في مدح عينيكِ قليلاً، إذ أنَّه لا بُدَّ من مدحهما على نحو مُنصف.
ففيهما ينام الطفل، ويأوي العجوز، ويختبئ الفار من ثأرٍ قديم.
عيناكِ يومٌ مُشمس، عيناكِ حنين الضائع لأهله
عيناكِ ينظران إليَّ بطريقة تجعلني أفرح لأنني واقفٌ أمامهما.
ليلان: ومن أكون أنا؟
باران: أنتِ ثلجٌ مُتراكمٌ على شجرة سرو مُعمِّرة.
عيناكِ هُنا، وفي كل مكان، ينظران للعالم على أنَّه جميلٌ مِنْذُ الأزل.
عيناكِ جمالٌ مُبالغٌ فيه، ولا يحتمل إلّا المديح الرفيع.
ليلان: لقد أنهكهما الغزل، ونال منهما المديح.
باران: شفتاكِ لا يتحدثان، شفتاكِ يُمثلان جزءاً كبيراً من جمالك الذي لا يحده قصيدة شاعر، ولا تحتويه ريشة فنان.
شفتاكِ سهلٌ ترعى فيه قطعان الغزلان
شفتاكِ عنبٌ من جبال بلادي
شفتاكِ حياةٌ لمن يريد النجاة.
ليلان: مديحٌ يصلح لكل النساء؟
باران: لكِ وحدك، لا أحد باستطاعته أن يستحق كل هذا المديح،
لا أحد غيركِ قادرٌ على أن يكون جميلاً ورائعاً في كل وقت.
آلان بيري