لا شك أن الرسام مارك شاغال الذي بدأ حياته ريفياً روسياً أوكرانياً لينهيها سيداً متأنقاً يتنقل بين مانهاتن والكوت دازور كان واحداً من فناني القرن الـ20 الكبار، الذين يمكن أن نقول عنهم إنهم لا يغيبون عن الساحة الفنية العالمية إلا ليعودوا إليها حتى دونما حاجة إلى مناسبة تبرر تلك العودة، كما أن شاغال الذي رحل عام 1985 عن عمر يناهز الـ97 كان واحداً من قلة من فنانين يعيشون في فرنسا تمكنوا من الإفلات من سطوة السمعة العارمة التي أحاطت ببيكاسو فجعلته يغطي على العدد الأكبر من زملائه كأنهم يعيشون في مهب نسيان تصنعه سمعته التي تجاوزت كل حدود. فشاغال كان بدوره ملء السمع والبصر على رغم الحضور الطاغي لبيكاسو ولا سيما أن العقد الأخير من حياته الذي عاش فيه ونشط بعد أن استكان ظل ببيكاسو. بموته بعض الشيء، كان مرحلة تبلور لفنه وإمعان ذلك الفن في اكتساب مزيد من الحضور العالمي. وهو حضور كان قد وصل إلى أوجه قبل ذلك في عدة مشاريع ضخمة تجاوزت حكاية المعارض ولوحاتها.
بهلوانية وتوازنات
فمن تزيينه رسوماً تحضر اليوم في الحياة السياحية الباريسية في سقف أوبرا باريس، إلى قبوله تزيين سقوف الكنيست الإسرائيلي برسوم تعبق بألوانه البديعة، مصراً على ألا يعطى عمله أكثر من بعده الفني، إلى المتحف الضخم الذي أقيم لأعماله في الجنوب الفرنسي (سان بول دي فانس)، من دون أن ننسى استضافة وزير الثقافة المصري في حينها ثروت عكاشة له لتحقيق ديكورات هي نفسها كانت عملاً فنياً ضخماً لباليه “دافني وكلوي” في دار الأوبرا المصرية، مما أسفر عن وضع عكاشة كتاباً في العربية يعتبر من أجمل بل حتى أضخم ما صدر عن شاغال في أية لغة من اللغات، عبر تلك الأعمال وبأكثر مما عبر لوحات مهما كانت قيمتها، عرف شاغال كيف يحافظ، بل يعزز مكانته الفنية في مواجهة مكانة بيكاسو. ومن هنا لم يكن قليلاً عدد الكتب والدراسات التي صدرت عن شاغال خلال السنوات الأخيرة من حياته. وكذلك لم يكن من ثم قليلاً عدد المعارض التي أقيمت لأعماله ولا سيما في موطنه الأصلي الذي عادت إليه أعماله مظفرة بعدما سقطت المنظومة الاشتراكية وسقط الاتحاد السوفياتي إنما من دون أن يعيش بنفسه ذلك السقوط وهو الذي بارح ذلك الوطن باكراً بعد سنوات قليلة من نجاح الثورة البلشفية. ولنذكر هنا أن مبارحة شاغال الاتحاد السوفياتي كانت في وقت سلمته فيه السلطات الثورية مقدرات الحياة الفنية في البلد وكرمته، فكانت دهشتها كبيرة حين جعل من نفسه برحيله الغامض في ذلك الحين، أي عام 1922، واحداً من أول المبدعين المنشقين الذين يعتد بهم.
حياد سلبي!
مهما يكن من أمر، حتى وإن كان شاغال قد أصر طوال حياته على ألا يدنو من السياسة أو يحاول تبرير أي موقف أو نشاط له يستشف منه وقوفه مع سياسة دون أخرى، منصرفاً فقط إلى ألوانه وتجديداته الفنية، فإن كثراً من الذين كتبوا عنه حاولوا استفزازه للوقوف على ما قد يكون لديه في ذلك الصدد، لكنه هو كان يرد عن التساؤلات بصمت وابتسامات باتت شهيرة على مر الزمن. وأحياناً بصورة عملية، ومن ذلك مثلاً أنه جعل من زيارته لمصر حيث صمم ديكورات الباليه المذكور نوعاً من الموازاة مع مكوثه لفترة في إسرائيل حيث حقق رسوم الكنيست، تماماً كما جعل من رسوم الكنيست التي اتسمت ببعد أسطوري توراتي نوعاً من التوازي مع رسومه لأوبرا باريس التي انطبعت بميسم تاريخي. ففي نهاية الأمر كان شاغال يتقن لعبة التوازن وبهلوانيات السير على الحبل المشدود. تماماً كما كان يتقن لعبة التكتم على حياته الخاصة الإنسانية، بل ربما أيضاً لعبة ترك الآخرين يقولون عنه ما لا يحب قوله، حتى ولو أن هؤلاء الآخرين لم يتورعوا عن الإساءة إليه.
…أخيراً شاغال والسياسة
اليوم وفي آخر تجليات هذه اللعبة التي تتواصل بعد ثلث قرن من رحيل شاغال، ها هي ذي باريس تشهد معرضاً كبيراً لأعماله يدور هذه المرة من حول… شاغال والسياسة. أي من حول الموضوع الذي آثر هو دائماً ألا يخوض فيه، ولكن بعد 10 سنوات من صدور واحد من أضخم الكتب التي صدرت عنه وهو من تأليف الباحثة جاكي وولشلاغر، التي تمكنت في ما يقارب 600 صفحة من قول كل ما يمكن قوله ولم يقل معظمه أبداً عن شاغال. بل ما كان من شأنه هو أن يمنع قوله في حياته، أو قول بعضه في الأقل! ولئن كانت الكاتبة، لم تأت بجديد معتبر بالنسبة إلى إنجازات شاغال الفنية وارتباطه بالتراث اليهودي الذي أتى به من ريفه الأوكراني – البيلاروسي في مسقط رأسه فيتبسك لينشره في العالم لوحات وألواناً يرى كثر من الباحثين أنها من أروع ما أنتجت الفنون في القرن الماضي، يرى آخرون أنها تعاني قدراً كبيراً من تكرار يبدو مملاً في آخر الأمر. والحقيقة أن المؤلفة تعرض تلك الآراء في تفاصيلها بنظرة موضوعية كما يجدر بكل مؤرخ فني نزيه أن يفعل. غير أن موضوعيتها تتوقف إلى حد ما حين تجابه ما سعت إلى اكتشافه على مجرى سنوات طويلة من العمل البحثي الدؤوب، مما مكنها في القسم الأكثر تجديدية ومفاجأة من فصول الكتاب من تقديم بورتريه لهذا الفنان ما كان من شأنه أن يرضيه لو قرأه قبل رحيله.
صورة قاسية
فما الذي تقوله لنا تلك الصورة القلمية التي ترسمها الكاتبة للفنان بعد ربع قرن من رحيله؟ ببساطة أن الرجل شاغال لم يكن أكثر من نموذج بشري منفر على رغم أنه كان فاتناً بل لربما لأنه بالتحديد كان فاتناً. فهذا الفنان الذي عاش نحواً من قرن من الزمن بدأ من بيلوروسيا ليصل كما أشرنا إلى الجنوب الفرنسي مروراً بنيويورك، رحلة طويلة انطبعت بإنتاج فني لم يقل فتنة عن صاحبه، تزوج ثلاث مرات ولم يكن موفقاً إلا في زواجه الأول (من بيلا التي هي الشخصية المحورية في لوحاته المبكرة و”حب حياته” كما كان يقول)، أما الزيجتان الأخريان فوسمتهما العواصف وكل ضروب النكد، بل إنه كان كثيراً ما يقدم على ضرب زوجته الثانية. وهو كان كذلك أباً مريعاً وصل الأمر به إلى حد أنه رفض مشاهدة طفله الأول طوال أيام عديدة تلت ولادته، لأن الطفل أتى بنتاً وهو كان يريده صبياً، ثم لاحقاً وبعد أن طلق زوجته الثانية أم الطفلة استنكف عن أي اتصال بهذه الأخيرة منكراً وجودها حتى.
ولكنهم كانوا قلة أولئك الذين عرفوا بحكاياته العائلية. ففي حياته الاجتماعية كان شاغال ودوداً مع الآخرين ويبدو متعففاً على الدوام. وهو عرف خلال أزهى سنوات حياته معظم المبدعين الذين زينوا النصف الأول من القرن الـ20 مرتبطاً بصداقات عميقة مع فرنان ليجيه وموديغلياني وسندرارس وأبولينير، كما كان قريباً جداً من رائد “الباليهات الروسية” دياغيليف، كما كان جاراً محباً لبيكاسو وماتيس، حتى وإن أثر عن هذين الأخيرين أنهما كانا يحبان ألوانه ويعجبان بأسلوبه في الرسم حتى وإن كان يجدان لديه ذلك التكرار الممل بحيث إن عمله انتهى من حيث بدأ. وأكثر من هذا ينقل الكتاب عن بيكاسو وماتيس أنهما لم يكونا يخفيان احتقارهما لنهمه إلى المال وتكالبه عليه إلى درجة أنه كان يفضل أن يمزق رسوماً يخطها على غطاء الطاولة في مطعم أو مقهى بدلاً من أن يهديها لمجالسيه مهما كانوا من المقربين منه… ولقد قال المعلقون على هذا الكتاب في نهاية الأمر، إنه على رغم كل شيء يكتشف الإنسان الحقيقي خلف الفنان الكبير ليقول لنا إن الفنان ومهما كانت عظمته لا يمكنه في نهاية المطاف إلا أن يكون إنساناً في كل معنى الكلمة… أي بمعنييها الإيجابي والسلبي في آن معاً!