لم تعتمد زينب فواز السجع في روايتها الصادرة سنة 1899، الأرجح أنه شاع بين بعض الكتاب آنذاك التراجع عن هذا النوع من الفن الكتابي، لكن فوّاز أبقت على الشعر، مقطّعات وقصائد قصيرة، تخللت نصّها السردي، فكان أبطال روايتها يتحوّلون إلى التعبير عن مشاعرهم بالنظم الموزون المقفّى، والمعتمد العمود الشعري العربي المعروف منذ العصر الجاهلي. والشعر هذا يجري على ألسنة الشخصيات الأكثر أهمية في الرواية، أعني أبطالها أساسا، وإن أمكن لنا أن نقرأه جاريا على ألسنة أشخاص ثانويين، على أن يظل ذلك قليلا وعابرا. الكاتبة فواز تستعيد بذلك كتب الحكايات العربية مثل «تغريبة بني هلال» و»الملك سيف بن ذي يزن» وسواهما، حيث كانت الحكايات تلقى أمام جمهور، والشعر آنذاك كان يُعلي من الحماسة والرغبة في الاستماع. وكان الشعر ما يزال قوّي الحضور في آخر القرن التاسع عشر. وها إننا، في مقدّمة الكتاب نقرآ التقريظ المرسل للكاتبة من شخصيات سياسية وإدارية وأدبية مهنّئة إياها على ما تنجزه، وأغلب هذا التقريظ مكتوب بالشعر الموزون والمقفّى.
الآن، في زمننا، بعد ما يزيد على القرن وربع القرن من إصدار الكاتبة عملها، يبدو أن تلك القصائد التي تملأ حيّزا لا بأس به من الكتاب، لن يصبر عليه القارئ. كاتب هذه السطور كان من بين هؤلاء الذين راحوا، بعد تخطّي الفصول الصغيرة الأولى، يعفّ عن القصائد تاركا إياها ليعود إلى المقطع التالي، حيث تُستأنف الرواية بلغة النثر. ويساعد في الإقبال على قراءة الرواية وضوح لغة فواز وقربها مما تؤثره كتابة الروايات والقدرة على متابعة الوقائع المتحوّلة في تلك الفترة، من تاريخ المنطقة موضوع روايتها. في أحيان نقرأ تمهيدا لتحول الرواية من مكان إلى آخر، أو من واقعة إلى أخرى، على نحو ما كنا نقرأ في الحكايات العربية المذكور عنها أعلاه. لكن هذا لا يُنقص من المهارة التعبيرية للكاتبة التي أدخلت في نسيج كتابتها ثقافات متباعدة زمانيا، خصوصا أن الكثير من مؤرّخي الأدب يقرون لفواز بريادتها الروائية قائلين إن «غادة الزاهرة» أو «حسن العواقب» وهو العنوان الثاني للرواية (فلكي تبقي على العنوانين كتبت فواز أن اسم الرواية هو «غادة الزاهرة» فيما عنوانها هو «حسن العواقب»). هي أول رواية عربية سبقت صدورها رواية محمد حسين هيكل «زينب» بنحو 14 عاما.
بذلك تكون زينب فوّاز قد أسّست في تمكّنها السردي لغة لكتابة الرواية، جديدة، قياسا بذلك الزمن. فهي لا بد تأثّرت بمفاهيم وأفكار استجدت آنذاك منها ما قالته في تقديمها لروايتها أنها لا تكتب عن بطولات جرت في التاريخ، بل عن عهد قريب هو «زمان الوجود» أي زمن وجودها الشخصي، قاصدة زمن معاصرتها لأحداث جرت في الجبل (جبل الشيخ). كما أنها تجهر بواقعية ما كتبت. في التمهيد ذاته لكتابها، تنتقل إلى الكلام عن أهمية «الروايات الأدبية» وفضلها على أنواع الكتابة الأخرى. تقول مثلا إن «أجلّها قدرا وسماها منزلة ومكانا ما قرُب من الواقع أو مثّل حقيقة الواقع» وفي هذا نقد لمن كانوا يسعون إلى إبقاء الأدب في ثرائه القديم.
وهي، في ذلك التقديم الموجز، تُلمح إلى واقعية روايتها لكونها عايشت زمن النزاع بين أميرين هما شكيب وعمه تامر على حكم بلادهما. لكنهما، مع ذلك، بسبب ولع كل منهما بابنة العم «فارعة» خاضا حروبهما. وهي حروب احتاجت إلى منازلات كان يجدّدها مكر العمّ ولجوئه إلى الغدر والحيلة إثر كل هزيمة تصيبه. حروب اتسعت إلى ما يتعدّى جبل الأميرين، حيث شملت حلفاء الأعمام الآخرين ورجال عشائر وقبائل وتمددت إلى مناطق تحدّ الجبل. ربما كان الأكثر واقعية بين ما تحتويه الرواية هو ذكرها لجماعات وطوائف مختلفة شاركت في نزاع الأميرين، مثل الدروز والمسيحيين، ووصلت أحداثها إلى السلطنة العثمانية، وإن لم يرد اسمها في الكتاب إلا مرّة يتيمة واحدة.
ولم تسمِّ الكاتبة شخصياتها بأسمائهم الحقيقية، خوفا من أن يؤثّر ذلك على من لا يزالون أحياء منهم، أي أنها، هي الكاتبة، كانت قد عايشت حروب الأقارب ونزاعاتهم، أو آخر مراحلها على الأقل. لكنها مع ذلك، ورغم إيثارها الواقعية، لم ترً في الأحداث القريبة إلا رجعة لزمن القبائل الفروسي. الأمير الشاب، شكيب، بطل الرواية، كسب كل المعارك التي خاضها ضد عمه. وقد رافقه فيها صديقان هما من أكثر الناس وفاء وصدقا، أما من حالفوه فأسبغت الكاتبة عليهم كل مظاهر الشرف والقوة فبدوا متساوين في تمثيلهم للفارس البطل الذي لا يُقهر.
في قراءة «غادة الزاهرة» يتداخل الحاضر بالماضي، والأفكار الجديدة تقتحمها صور قديمة تهبّ من الذاكرة. ربما لهذا اختلف مؤرّخو الأدب في تعيين الرواية العربية الأولى، على الرغم من سهولة ذلك إن اقتصر الأمر على سنوات الصدور.
رواية «غادة الزاهرة» صدرت لأول مرة في 1899، ثم أعيد إصدارها مرات في حياة كاتبتها. واستمرت بالصدور المتقطّع عن دور نشر وجمعيات ثقافية وهيئات رسمية. هذا الصدور الأخير لها، سعت إلى تحقيقه «جمعية نساء ذوات ثقافة مزدوجة» وقدمت لها فاطمة الخواجا وأصدرتها دار نلسن في بيروت في 278 صفحة لسنة 2024.
كاتب لبناني