حسن إسميك
يحتار المرء عندما يحاول التصدي بالنقد والمناقشة في قضية مهمة وشديدة التعقيد، وخطيرة أيضاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولكن في الوقت نفسه يجد المعنيين بالنقد فيها، أو المسؤولين عن خطورتها، اعتادوا اللجوء إلى خطاب مبسط لحدِّ السذاجة، وتمييع المشكلات بأسلوب انفعالي خالٍ من المضمون، وجدالات كرتونية واهية، تراها كبيرة جداً ولكنها خاوية بلا أهداف جادة ولا قواعد راسخة.
والآن.. وبعد مضي أكثر من شهر على بدء الحرب انطلاقاً من غزة في اليومين الأولين، ثم عليها في الأيام التالية حتى هذه الساعة، وبعدما تجاوز عدد ضحاياها الأبرياء من الفلسطينيين العشرة آلاف (ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال)، نحن اليوم بأمسّ الحاجة للاستماع إلى صوت العقل الذي كان ينبغي أن نستمع إليه منذ اليوم الأول، لكن أصوات أصحاب الخطاب الساذج والانفعالي كانت تعلو حتى على صوت المعركة ذاتها.
لم أجد في السابع من تشرين الأول(أكتوبر) والأيام الأولى التي تلته ما يمكن قوله، فأنا في الأصل لست مراسلاً إعلامياً ولا محللاً سياسياً (تحت الطلب) يرمي بتصريحاته مباشرة عقب كل حدث حتى لو كان قد سمع به للتّو. ولا جدال في أن حدث السابع من تشرين الأول كان مفاجئاً وسريعاً وغير متوقَّع، وكان ينبغي لكل عاقل الوقوف طويلاً عند استشراف نتائجه وتوضيح تبعاته ودلالاته، بخاصة أن إسرائيل (الطرف الآخر في هذا الحدث) وبعد أن تمتصَّ عنصرَي المفاجأة والسرعة، لن تتوانى عن رد فعل عنيف وذي عواقب كبيرة على غزة وأهلها المدنيين غير المستعدين لمواجهتها.
لن أخوض كثيراً في الشأن السياسي، لكن ينبغي التذكير سريعاً بأهم التبعات السياسية والعسكرية التي ظهرت منذ البداية، والتي أيضاً كان ينبغي أخذها بالحسبان كي لا تنزلق مجريات الحدث إلى المأساة التي يعانيها أهل غزة اليوم، أهم هذه التبعات (والجميع يعرفها ولكن القليلين يدركون خطورتها): إعلان الغرب دعمه المطلق لإسرائيل في التصدي للفصائل المسلحة، وتوفير الغطاء السياسي لحكومتها (عبر رفض مقترحات وقف إطلاق النار أو الاتفاق على هدنة أو تخفيف شدة الحصار) لتتجاوز القوات الإسرائيلية مجرد رد الهجوم السريع والمفاجئ، وتقوم بهجوم مضاد قوي ومُجدوَل ومدروس. لم تتوان الولايات المتحدة أيضاً عن ترجمة موقفها السياسي الداعم لإسرائيل بخطوات عملية عسكرية مباشرة، فسارعت إلى إعلان جاهزية مدمراتها في مياه المتوسط دفاعاً عن حليفتها، وتوجيه إنذار واضح بعدم التدخل. حدث هذا كله سريعاً والعرب مختلفون حول هل ثمة تنسيق بين الفصائل الفلسطينية وأطراف إقليمية؟ وهل سيتم تهجير الفلسطينيين إلى سيناء؟ وهل ستتسع دائرة الحرب.. أم أن المحاور الفاعلة الأخرى ستبقى متفاجئة لوقت طويل! و”عاتبة” على الأجنحة العسكرية التي اختارت إعلان الحرب دون أي تنسيق أو إخطار!
واستئنافاً لما ورد في المقدمة، كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيط الأكثر فاعلية بيننا وبين الحدث مقارنة بوكالات الأنباء والوسائط الإعلامية التقليدية، ومن خلال منصات التواصل هذه كان صوت العقل المطالب بالتهدئة والإسراع إلى وقف إطلاق النار وإنقاذ المدنيين خافتاً جداً أمام ملايين الأصوات التي يتوهم أصحابها أنهم ينطلقون من عقيدة العداء لإسرائيل والغرب، ومن مناصرة غزة وأهلها، ولكن نتائج ما يقومون به كانت تسير في اتجاه معاكس تماماً، بل وأكثر من ذلك في اتجاه مصالح “عدوهم” بسبب اختلال ميزان المصالح في وعيهم. إذ بمجرد أن تجاوزت إسرائيل صدمة الهجوم المباغت عليها، واستلمت زمام المبادرة بالفعل، أصبح أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع، معظمهم من النساء والأطفال والمدنيين الذين لا يريدون الحرب، تحت مطارق ثلاث تهددهم بالموت وتعطل أسباب الحياة بكل أشكالها: القصف الإسرائيلي من جهة، وتضييق الحصار الذي سيؤدي إلى توقف الخدمات الصحية وبقية الضروريات من غذاء وطاقة ومأوى من جهة ثانية، وهيمنة الفصائل المسلحة على قرار المدنيين من جهة ثالثة.
أمام وضع مأسوي كهذا، وباعتبار كل الأسباب التي ينبغي الأخذ بها؛ الإنسانية بالدرجة الأولى، أو حتى السياسية والعسكرية، لا أعتقد أن ثمة أي منطق عقلي صرف، أو براغماتي عملي، ناهيك بالأخلاقي، يمكن أن يحتج به أبطال السوشال ميديا وهم يطالبون أهل غزة باستمرار “الصمود” و”المقاومة” و”الصبر” و”الجهاد”، ولا يمنعهم عن ذلك ما يشاهدونه من آثار الدمار نتيجة القذائف التي كانت تُمطر فوق المدنيين الأبرياء، ومئات الضحايا من الأطفال الذين لم يتجاوز عمر بعضهم سنة واحدة، أو شهراً أو حتى أسبوعاً، وعشرات الأمهات اللواتي فقدن أسرهنّ كاملة، وعشرات الأمثلة عن “الناجي الوحيد” من أسر استشهد جميع أفرادها باستثنائه؛ أباً كان أو أماً أو أحد الأولاد، ليواجه مصيره وحيداً في ظل أعنف حرب ضد المدنيين منذ عقود.
أبطال السوشال ميديا هؤلاء لم يكونوا مكتفين بالتعبير عن رأيهم القاتل هذا، بل رأيناهم وبالحماسة ذاتها يتصدون لصاحب كل رأي عقلاني يطالب بالسلام لأهل غزة، أو يدعو إلى فعل كل ما يمكن فعله لإيقاف شلال النار فوق رؤوسهم، فيرمونه بأرخص تهم التخوين والاستسلام، ويُلبسون تهمهم هذه بلبوسٍ فاسدٍ ومقتطع يقوم على سوء فهم أحكام الدين وإدراك مقاصده وأولوياته، ويغلفون خطابهم الإجرامي هذا بادعاء أنهم على حق، وأنهم يجاهدون بالكلمة، بينما صاحب صوت العقل والداعي إلى السلم والهدنة هو في نظرهم متخاذل عن نصرة الدين والمقدسات، وعميل للغرب ولإسرائيل، فقط لأنه يسعى بقدر استطاعته لحفظ دماء هؤلاء الأبرياء الذين لا ذنب لهم في هذه الحرب فيعاقبون عليه، ولا مصلحة لهم منها يسعون إلى تحقيقها.
هؤلاء الأبطال الكاذبون، وبخاصة العرب منهم، يقيمون في دولهم (أو في بلاد الغرب ذاتها التي يدعون إلى مقاتلتها)، آمنين مستقرين، يعيشون في منازل مجهزة بكل وسائل الراحة، فالأرائك الوثيرة من تحتهم، ووسائل التكييف فوق رؤوسهم، وثلاجاتهم متخمة بما لذ وطاب من الطعام والشراب، ورغم ذلك لا يشعرون بالذنب أو بالعار وهم يطلبون الصمود والاستمرار في التصعيد ممن يعيشون بلا سقف فوق رؤوسهم ليحميهم، أو بقعة صغيرة وآمنة من الأرض تحتهم، ولا يجدون ماءً صالحاً ليشربوه، ولا طعاماً ليضعوه في أفواه أطفالهم أو عجائزهم الجائعين، ولا دواء يسكّن آلام المصابين أو يطبب جراحاتهم، ولا حتى أكفاناً ليشيعوا بها موتاهم.
وبينما ينتقل أهل غزة من مكان لم يعد آمناً إلى مكان آخر آمن لفترة وجيزة، أو عندما ينتقلون من شارع تم تدميره إلى شارع آخر سيدمر بعد قليل، فإن “مجاهدي” العالم الافتراضي على “إكس” (تويتر سابقاً) و”فايسبوك” و”إنستغرام” لهم انتقالاتهم أيضاً، حين يقفون لبرهة أمام صورة ضحايا مستشفى المعمداني (والذين كانوا بالمئات)، وبعد أن يتفاعلوا معها برمز “أحزنني”، ينتقلون إلى منشور يقول أن إسرائيل فقدت ثلاثة جنود، ليتفاعلوا معه برمز “أحببته” أو “أضحكني”، ثم يليه منشور آخر يطالب العرب بإعلان حرب مفتوحة، فيضيف عليه تعليقه الجاهز (لا سلام لا صلح مع العدو بل الجهاد) وهو إذا أوقفه رجل المرور انخلع فؤاده وارتعدت فرائصه.
ولما كانت بعض الوسائل قد ضيقت بخوارزمياتها نشر ما يتعلق بغزة وأهلها، فسيصادف هذا البطل الكرتوني منشورات أخرى لفيديوهات مضحكة أو مقاطع درامية هابطة، أو نكتاً سمجة سخيفة، تأخذه بعيداً من منشورات الحرب، فتراه ينشغل بهذه المنشورات حتى إذا قضى فيها ساعة أو ساعتين من الترفيه والتسلية، يعودُ متحمساً لمواصلة جهاده الإلكتروني من دون أن يشعر أن أعداد الضحايا من الأطفال قد زادت بالعشرات خلال هاتين الساعتين، فهو لا يرى سوى مجرد أرقام كأرقام أسواق البورصة، لكنها تستمر في الارتفاع ولا تنخفض أبداً. وهكذا دواليك يخوض “أبطال السوشال ميديا” التحامهم الإلكتروني الشجاع مع العدو.
بعض هؤلاء “المجاهدين الإلكترونيين” اكتشف جبهة جديدة للمواجهة، وذلك عبر الدخول إلى الصفحات الإسرائيلية بالعربية أو حسابات بعض الناشطين الإسرائيليين، وسواء قرأ ما يكتبون أم لم يقرأه، فهمه أو لم يفهمه، فإنه ينطلق مباشرة إلى التعليقات ليوجه لأصحاب هؤلاء الحسابات شتائمه “النارية” وتهديداته “النووية” بأن الموت قادم إليهم بين ليلة وضحاها، وإذا أرادوا النجاة فليعودوا إلى الدول الأوروبية التي قدموا منها. لكن المضحك المبكي في الوقت ذاته أنه يتمنى أن يسبقهم إلى هذه الدول!
في الحقيقة.. ورغم أنني تناولت هؤلاء “الأبطال” الافتراضيين بالسخرية، إلا أن ذلك ليس حباً بالكوميديا السوداء ولا افتتاناً بالأدب الساخر، بل إن الواقع المزري الذي تصنعه الحروب والأزمات يدفع إلى السطح أهم المشكلات التي تعانيها العقلية العربية، ويسلط الضوء على ما يعتريها من تخبط وضياع كبيرين عنوانهما الرئيس غياب الفكر المتوازن والمنطقي، وهيمنة التفكير الانفعالي الطفولي الساذج أحياناً، أو الغارق أحياناً أخرى في بحر مظلم من العقد النفسية الجمعية التي توارثناها جيلاً بعد جيل تحت وقع الهزائم والانكسارات المتتالية، فبتنا جميعاً نفرغ آلام أمراضنا بحيل دفاعية لا شعورية، نريد من خلالها التكفير عن الذنب من دون تضحية، أو التخلص من عقد النقص والشعور بالدونية من دون عمل، بل نكتفي بترديد ما نحب أن نسمع، وبسماع ما يوافق أهواءنا ورغباتنا، بينما يستمر غرقنا في حلم يقظة جمعي مستبد وغاشم، فإذا ما حاول أحدنا الخروج منه نحو يقظة حقيقية، سرعان ما يسحبه الآخرون إلى الأعماق المظلمة من جديد.
أخيراً.. أؤمن تماماً بأن خلاص الأمم لا يتحقق إلا حين يكون خلاصاً جماعياً، لكن الوعي المؤسس لهذا الخلاص لا يمكن أن يكتمل نضجه ويؤتي ثمرته إلا حين يكون وعياً فردياً.. ونحن أمة انشغلت بالجماعة عن الحرص على أفرادها والعناية بهم.. فما عاد يعنيها موت أفراد هنا وتهجير أفراد هناك.. في بقعة صغيرة من أرض جريحة اسمها.. “قطاع غزة”.