قبل عام، قدم مسرح التاغ في برلين/ tak theater، بالشراكة مع مؤسسة برزخ الثقافية، نصًّا مسرحيًّا لي بعنوان “فترة مؤقتة”. كان العرض المسرحي على هيئة قراءات مسرحية للنص باللغتين العربية والألمانية مع ممثلين عرب وألمان. تسرد المسرحية الحكاية الفلسطينية، وهو ما يجعل من إعادة تقديم المسرحية في ألمانيا هذه الأيام (وهذا ما كان مخططًا له) ضربًا من المستحيل، لأن إقامة حدث فلسطيني في برلين اليوم، بما يحمله الحدث المسرحي من تجمع وتجمهر، هو أشبه بالدعوة إلى التظاهر في مدينة عادت، مرة أخرى، تخشى المظاهرات وتقمعها.
فلسطين… قضية أم سردية أم حكاية؟
هنالك قول يسأل إذا ما زالت فلسطين قضية سياسية؟ وأصحاب هذا القول يحاولون الحفر في مفهوم فلسطين بما هي قضية، وماذا بقي من صورة هذه القضية، ولكن أظن أنهم يحفرون في المكان الخطأ، وبلا طائل، فالأهم فيما لو كانت فلسطين قضية سياسية أم لا هو أنها بدأت في عقدها الأخير تتخلص من كونها قضية سياسية فقط، وتغذي حضورها لا من كونها سردية، قومية أو دينية، قد تنهار مع التقادم، بل من كونها حكاية، تكمن ديمومتها وقوتها في سردها. حكاية بسيطة، وواضحة: قوة أجنبية احتلت أرض عام 1948، وشعب يقاوم الاحتلال منذ ذلك الحين. جرب الفلسطينيون كل شيء، وكل طرق المقاومة، من الأكثر راديكالية، إلى الحل السياسي مع أوسلو والسلام غير المشروط والقبول ليس بحل الدولتين فقط، بل بأي حل ترتئيه إسرائيل. وحل هذه الأخيرة دائمًا كان الاحتلال والاحتلال والاحتلال. حكاية بسيطة، وفعلنا المجدي، وليس الوحيد، هو أن نروي هذه الحكاية، بكل الطرق الممكنة، وتكرار رويها، ليس جيلًا بعد جيل، فهذا كلام بائد، بل يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، وتكرارًا إثر تكرار.
من هنا، كانت الحكاية الفلسطينية خطيرة، كثيفة وممتدة، وذلك كان أساس نص “فترة مؤقتة”. هو سرد الحكاية عبر قصة سلمى، فتاة فلسطينية ألمانية تستلم بطاقة معايدة من أبيها في عيد ميلادها الأربعين، بعد أن كانت تعتقد بوفاته منذ كانت طفلة. وقد دفعها ذلك إلى رحلة بحث طويلة، ليس عن الأب وصورته وحسب، بل عن نفسها أيضًا، من هي فعلًا؟ وما هو تاريخها؟ بين فلسطين ولبنان وسورية، وبين ألمانيا موطنها ومسقط رأسها، تحاول سلمى لملمة حكاية أبيها وتحولاته الجذرية، من فدائي في بيروت إلى أكاديمي في ألمانيا الشرقية، ومن مشروع أستاذ جامعي فلسطيني في دمشق، إلى لاجئ سوري في تركيا. تجد سلمى نفسها، مع كل محاولة لروي الحكاية، أو تركيب تاريخ المقاومة الفلسطينية، عاجزة عن الإلمام بسيرة الأب المفقود، والوطن المفقود.
المروية الفلسطينية، إسرائيل، الكفاح المسلح، الهولوكوست، عقدة الذنب الألمانية، ألمانيا الشرقية، اليهود والعرب، اللاجئون. كل هذه الموضوعات كانت أساسًا لنقاشات الممثلين العرب والألمان في العرض المسرحي. من أعمار ومشارب مختلفة، بحث المؤدون والمخرجة علا الخطيب في التاريخ الفلسطيني مع سلمى، تبنوا خطابها، ورووا حكاية أبيها، بلسان ألماني وعربي، في مسرح ألماني، في العاصمة الألمانية. رد فعل الجمهور كان مركبًا، العربي تتبع الحكاية التي يعرف جوانبها، والأوروبي والألماني خرج بأسئلة كثيرة وتفصيلية تحديدا حول سلاح المقاومة الفلسطينية وشرعيته. وذلك ما أراده فريق المسرحية من العرض، طرح الحكاية الفلسطينية ومناقشتها الآن (2022) وهنا (برلين).
غزة أحلى من برلين
قدمَت برلين نفسها في العقد الأخير، كأكثر مدن أوروبا انفتاحًا، وعالمية، واختلاطًا. مهما كان لونك أو عرقك أو معتقدك، يمكن العيش في برلين، وفي صورة واحدة لمترو أنفاق المدينة تكتشف مدى تنوعها. أحياءها أيضًا تتسع وتختلف، وتسع الجميع باختلاف طبقاتهم الاقتصادية، وأنواعهم الجنسانية. بدت المدينة تقدم نفسها كحاضنة للحراك الشبابي الثوري، وللعمل الثقافي المستقل من جهة، ولبناء مجتمعات أهلية مغلقة من جهة أخرى، وكل ذلك في خطوط متشابكة من الأقليات، العرقية والدينية التي تعيش بها. كعربي مثلًا، يمكنك أن تعيش بها كما كنت تعيش في بلادك، المقهى والحارة، والزمن المستعاد، ويمكنك في الوقت ذاته تجربة العيش الأوروبي المعاصر، بأشد صوره انفتاحًا. والخطان، وغيرهما، يلتقون في مطعم برلين الأكبر/ Sonneallee، أو شارع العرب، حيث صار للطعام الشامي كلمته العليا في ثقافة طعام الشارع في أوروبا. بعبارة أخرى، بدأت تظهر برلين كمدينة للجميع، وتحديدًا أولئك المنفيين الهائمين بحثًا عن فردوس الأوطان المفقود.
إلا أن المدينة قالت قولها المفاجئ بعد أحداث السابع من أكتوبر في فلسطين. التبس مفهوم الحرية، واستحال مطبخ برلين الكبير إلى صورة من صور الغيتو المعاصر. من دون تمهيد، ضاقت المدينة الرحبة بساكنيها، حرس وشرطة وحواجز تفتيش. وانتقل القمع من الرمزي إلى الجسدي العنيف فورًا. مُنع التجمع، كأي نظام طوارئ، وغدت كل علامات فلسطين خطيرة، ويجب اجتثاثها، وكأن المدينة تطلق أشباح تاريخها مجددًا في وجه سكانها الجدد، الألمان والأوروبيين الذي كانوا يرددون منذ أيام على أبوابها: الحرية لفلسطين من الذنب الألماني Free Palestine from the German Guilt. والعرب الذين يُجمعون أن كل مدن فلسطين، والمدن العربية المفقودة، أحلى من برلين.
الفلسطينيون في ألمانيا أجيال، كما في أماكن لجوئهم الأخرى. الجيل الأول هو الجيل الذي لجأ إلى أوروبا بعيد الحرب الأهلية اللبنانية واجتياح بيروت، ويعيش هؤلاء في منطقة النوي كولن، بعضهم إلى الآن، لم تمنحه ألمانيا الجنسية، وفي الوقت ذاته لا تعترف بفلسطينيتهم. أما الجيل الثاني فوصلها مع موجة الهجرة منتصف العقد الماضي. لم تكن مشكلة الشرطة الألمانية، وشرطة برلين تحديدًا، مع هؤلاء فقط، الفلسطينيون ليسوا فقط من هم ورقيًا مِن هناك، السوريون مثلًا فلسطينيون أيضًا، حتى النخاع، وهم غدوا ذوي حضور في الشارع الغاضب في ألمانيا. إلا أن ذلك كله لا يشكل ثقلًا حقيقيًا في المجتمع البرليني. ولا يمكنه، كما أثبتت هذه الأيام، أن يقوم بتمرد شعبي سلمي مؤقت، هو محدود بشبكة قوانين تكبحه، وتحد شغبه في تجارة المخدرات وشجار العصابات. لذا تبدو فكرة الحراك الشعبي العربي في برلين، الآن، أو بعد عشر سنوات، هي فكرة ديستوبية نجدها فقط في الروايات والمسلسلات.
على هيئة مانفيستو
احترت في الصيغة التي يجب عليها بناء هذا النص. أن تتكلم عن عملك المسرحي، من الداخل، هو أقرب لوصف فردي، مكانه يومياتك، أو كتب تنظيرك. كذلك لن يكون مقنعًا التظاهر بالتغريب عن العمل، وقراءته من الخارج وكأنني لست كاتبه. ولست فلسطينيًا، سوريًا، غزيًّا. إذًا، الخطاب المباشر هو الحل. وكمسرحي عربي سأسأل زملائي المسرحيين جهارًا: ما الغاية من العمل المسرحي في أوروبا؟ وما هي الجدوى؟ بالنسبة لي، شخصيًا، كانت جدوى العمل المسرحي في المنفى هو قول الحكاية، السورية والفلسطينية، لكن إن أصبح ذلك ممنوعًا، أو مشروطًا على أقل تقدير، ما الجدوى إذًا، ماذا تبقى لنا هنا، وما الفرق بين منعين ورقابتين؟ وما العمل في ظل استحالة العودة إلى البلاد المغلولة بالنار والحديد؟
كان النص، وما زال، قيد التطوير والكتابة، وكان من المفترض تقديمه في برلين مرة أخرى، بعد قرب صدوره مطبوعًا بالألمانية والعربية. أتخيل لو أننا قدمنا بالفعل العرض اليوم في برلين، كيف ستكون ردة الفعل، كيف سيوصف علم فلسطين الموجود في الفضاء المسرحي، أو خريطة فلسطين على قميص أحد الممثلين، والكوفية الفلسطينية على كتف آخر. هل سنساق كلنا إلى السجن، وتكال علينا تهم اللاسامية، نحن الساميين؟ وتعود بنا برلين، عربًا وألمانًا، إلى ثلاثينيات القرن الماضي.
في كل عروضي المسرحية بين دمشق وبيروت وبروكسل وبرلين، مرتان فقط سُئلت عن الرقابة بشكل مباشر، الأولى في دمشق عام 2015، حينما سألتني مديرة “جوقة الفرح” بعد مسرحية “لا مَخرَج” إذا ما كان هذا العرض قد خضع للرقابة فعلًا! والثانية كانت في عرض “فترة مؤقتة” في برلين، حينما سئلت ذات السؤال من امرأة ألمانية: هل سمح لك بمهاجمة إسرائيل في ألمانيا؟ هل هذا الشيء مصرَّح به؟ لكن لم أعرف هوية السائل قبل أن تضيع بين زحام الجمهور. كل ما سبق لا يهم، بل إنه يبدو هذرًا أمام شلال الدم الساري هناك، في غزة، حيث الحكاية، حكايتنا التي لم تنته بعد.
بطاقة العرض
العنوان: فترة مؤقتة.
المكان والزمان: برلين ـ أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
تأليف: علاء الدين العالم.
ترجمة: غونتر أورت.
إخراج: علا الخطيب.
درامتورجيا: وائل قدور.
أداء: بسام داوود، فاتنة ليلى، مازن الجبة، هشام النمر، حسن تاشين، إيمان دوجي، راسموس ماكس ويرث، جيرالد ميشيل، لورا بيكر.
الإدارة الفنية: غسان حماش.
تصوير: محمد بدارنة.
(ضمن مشروع قاف للقراءات المسرحية).