وكأن نجيب محفوظ وضع عنوان قصته المكتوبة منذ نحو 45 عاما هناك، في تلك القاعة الفخمة بالرياض، وهو يستمع لكلمة بشار الأسد، فتحولت القمة العربية الإسلامية من حالتها الجادة الصارمة والغاضبة على ما يجري في غزة، إلى نمط من كوميديا سوداء، أكثر حدة بكثير من قصة صاحب نوبل، الذي لم يظن أبدا، أن هناك من يمتلك مثل هذه الصلافة ليعظ بالفضيلة، ويداه غارقتان بدماء الأبرياء.

خطاب بشار الأسد في قمة الرياض أساء لغزة وقضيتها، كما لم يحدث مع سواه. ولعل نتنياهو كان يقهقه مع كل جملة تتحدث عن الحقوق والدماء والجرائم وعن قتل الأبرياء وتهديم المدن على رؤوس ساكنيها، وعن قصف المستشفيات ودور العبادة وتعمد استهداف فرق الدفاع المدني وطواقم الإسعاف، وخزانات المياه ومصادر الطاقة وصوامع الحبوب والأفران وكل ما يبقى فرصة للحياة، وفي الحقيقة، ليس نتنياهو وحده من كان يضحك منتشيا، فكل المستبدين والحكام الدمويين حول العالم قد شعروا لحظتها بوجود فرصة للنجاة، مهما كانت قوة الجرائم وعلنيتها، ومهما أرعد العالم وأزبد، ففي النهاية ما يحدد بقاءك ودوام نظام حكمك، ليس ما ترتكبه من جرائم أو تقوم به من أفعال منكرة، بل هو قدرتك على خدمة الأجندات الخارجية  والمزايدة على قضايا يعتبرها الناس جوهرية وذات قيمة عليا، أو هكذا بدا من وجود بشار وخطابه المنافق.

لم يكن نتنياهو وحده من يرى نفسه جالسا وسط القادة العرب والمسلمين بهيئة كائن آخر، فكل من كان قد نسي سوريا في حمأة الحرب على غزة، قد استعاد المقارنة ذاتها، وطرح الأسئلة نفسها: هل نحن أمام نمط من الكذب الرخيص المكشوف أم أن هذا الكائن يصدق فعلا ما يقول؟، أم تراه يستغبي القادة الحاضرين، ومعهم الملايين من العرب والمسلمين، وجميعهم يدركون أن ما أقدم عليه بشار الأسد ونظامه ومن حالفه من الإيرانيين والروس قد بلغ ما يحدث في غزة بل تجاوزه خلال 12 عاماً.

كانت دعوة بشار للقمة منذ البداية مثيرة للغضب، فهو ليس مجرد مجرم من المعيب أن يشارك القادة جلساتهم، ناهيك عن قمة بهذه الأهمية والطبيعة، لكن وجوده في سياق مناقشة العدوان جرائم الحرب وحقوق الإنسان، فيه قدر كبير من التناقض الخطير والصارخ، ويمكن لأي مراقب أجنبي بسيط أن يشكك بكل ما يطرح في القمة او يصدر عنها، لأنها ببساطة تضم شخصا متهما بجرائم وأفعال أسوا بكثير مما اجتمعت القمة لإدانته، فكيف إذا ما تحدث هذا الشخص ذاته بكل المبادئ والقيم التي ينتهكها منذ أكثر من عقد وما زال.

لقد ظل أفضل ما في قضية فلسطين أنها وحدت الأمة العربية لعقود، حتى أصبحت قضيتها المركزية وأيقونة عقيدتها، لكن وبالمقابل كان أخطر ما في هذه القضية أنها اعتبرت محوراً للدجل السياسي وأسباب الإمساك بالسلطة، وتخدير الجماهير، وخداع الأجيال وتزوير التاريخ، وتضييع المدن والعواصم العربية، وكان نظام الأسد الأب والابن الأكثر والأخطر دهاء في استغلال قضية فلسطين، وتعامل معها في كل الأوقات على أنها منصة لغسيل جرائمه، وتسويغ انتهاكاته الجسيمة والمتكررة.

ولم تكن هذه الجرائم والانتهاكات ضد السوريين فقط، فهي شملت بشكل خاص الفلسطينيين ذاتهم، من تل الزعتر إلى اليرموك، وتعدت عمليات القتل والحصار والتجويع والتعذيب، إلى محاولة التسبب بأكبر أذى ممكن للقضية الفلسطينية ذاتها، حينما حارب الأسد الأب منظمة التحرير وزعيمها الراحل ياسر عرفات، واخترع تنظيمات انفصالية عبثت بنضال الشعب الفلسطيني، بدءا من الجبهة الشعبية -القيادة العامة- مرورا بمنظمة الصاعقة، وفتح الانتفاضة، وليس انتهاء بتواطؤ الأسد الابن مع إيران في إيجاد ما يسمى (محور المقاومة) الذي استغل قضية فلسطين والقدس أبشع استغلال، ملأ الدنيا ضجيجاً بالمزايدات التي حاول بها تغطية الجرائم ضد الشعب السوري، فلما أزف الوقت، وجاء الامتحان، نكص محور الدجل الإيراني الأسدي، واكتفى بزعيق بشار خلال القمة او خطابات لا تأمن من خوف أهل غزة ولا تغني من جوعهم.

وجود بشار في قمة الرياض كان مؤسفاً، ومؤذياً لقضية أهل غزة، وربما كانت فائدته الوحيدة أنه أعاد طرح التساؤل العميق الذي لن يزول ابدا، هل أن بعض حكامنا من أمثال بشار هم ما يمنح الآخرين الرخصة والنموذج، وربما الالهام لقتلنا دون رادع ولا حسيب؟؟.