“نحن في الغربة لا نختلف تماماً عمّن هم في الداخل، فنحن جميعنا فعلياً من دون أرواح، مقطعون، نازفون، مدمرون ومهددون، يلاحقوننا عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، يسعون إلى إخراسنا.”
“أحاول الحفاظ على شارع بيتي في رأسي، وأحاول الحفاظ على بيتي في رأسي، قبل أن يدمر، أحاول الحفاظ على المشهد الحيّ الذي كنا نضحك فيه أنا وصديقي محمد مخيمر في كافيه روتانا قبل 7 سنوات، قبل أن تسحقه آلة الحرب قبل أسبوعين مع عائلته”، يقول الكاتب الفلسطيني هشام أبو عساكر، محاولاً وصف ما يشعر به الفلسطينيون المغتربون وهم يتابعون الحرب الإسرائيلية على غزة.
ينحدر أبو عساكر من غزة، حيث وُلد وعاش، قبل أن يغادرها منذ سنوات قليلة، “الآن مثلاً، ما الذي سيتبقى لي باستثناء عائلتي بعدما مات نصف أصدقائي؟ ودُمّرت الشوارع والمباني التي كنت أحبها وأرتادها؟ إن ماتت عائلتي، كيف سأكمل حياتي؟ وكيف لي أن أحتمل فكرة أنني بتُّ بلا مرجع، باستثناء ذاكرتي؟. هي جيشي الوحيد في حرب الإبادة هذه… هي جيشي الذي أهزم على يده، إن مُحيت بلادي”.
تبدو الذاكرة الجماعية زاد لاجئين ومغتربين قسراً عن وطنهم يقول هشام “المغترب ليس لديه سوى ذاكرته، هي جيشه الوحيد في حرب الإبادة الجارية، كل الصور والمشاهد التي ترده عبر الميديا، تحاول هزيمة هذا الجيش وتقليص وجوده، إنها حرب بين الحاضر المتمثّل بالمحو والاقتلاع والماضي المتمثّل بالذاكرة المحمولة على كل ما هو لديّ”.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر على قطاع غزة، أصبحت غزة بيوت عزاء بعدما ناهز عدد الضحايا نحو الـ 11000.
من هو حيّ، هو حيّ المصادفة، أشجار العائلات تتساقط كاملةً لا أفراداً، يفلت كل شيء من الجميع، القصص، البيوت، الذكريات، الأصدقاء، الأحلام. هي حالة من الاغتيال العبثي لكل شيء، خيام تأبين وجرائد نعي وحزنٌ في الهواء، وفي هذه اللحظة يختبر فلسطينيو الخارج والمغتربون مشاعر لم يعرفوها من قبل، إذ لا يترك الزمن آثاره العميقة في ملامحهم التي سكنتها التغيرات وحسب، بل يتركها في داخلهم بلوعة ومرارة لا يمكن أن تُنسى، فذاكرتهم تجاه الوطن هي ذاكرة جرح، وجرح الذاكرة لا يموت أبداً.
الولوج الى الذاكرة مغامرة غير محسوبة النتائج، فهي قد تكون الفردوس الذي لا يستطيع أحد طردنا منه، ولكنها أيضا قد تكون الجحيم الذي نعجز عن الهروب منه، وسيرة الأمكنة التي تركت فيهم أحداثاً جارحة طُبعت في الذاكرة، بشاعة الحرب، ليعودوا بجرحهم الأكبر، جرح التهجير القسري والابتعاد عن الوطن قسراً، الجرح الذي لا يستطيع فهمه إلا من يعانيه، والذي يحمل بداخله الكثير الأسى.
“إننا نفقد كل شيء، أقرباءنا وأصحابنا، جيراننا وعوائلنا، وذكرياتنا، كل غزة مكلومة ومجروحة. “
حالة من الخوف والترقّب
يعيش المواطنون الغزيّون في قطاع غزة، حروباً متواصلة منذ أكثر من 17 عاماً، وكأن حياتهم حرب تتخللها أوقات متباعدة من الهدوء. وخلال هذه الحرب، يختبر كل شخص فينا مشاعر مختلفة، تخرج عن كل ما هو عادي ومألوف.
وما بين هذا كله، ثمة “اغتراب” بين الوطن الأم والعالم، إذ تمثّل الذاكرة الجماعية قيمة أساسية بالنسبة الى هويّة من يعيشون بعيداً عن الوطن الأم في بلدان العالم.
يصف ماجد مقداد من قرية حمامة المهجرة المقيم في تركيا، مشاعره قائلاً: “إننا نفقد كل شيء، أقرباءنا وأصحابنا، جيراننا وعوائلنا، وذكرياتنا، كل غزة مكلومة ومجروحة.
ويكمل: “خوفي بكامله يتجسّد بالنجاة وحيداً، وأن خسارة هذه العائلة التي لا أملك غيرها في حياتي تنزع أي قيمة للحياة بالنسبة إلي، يصبح كل شيء من دون جدوى، كأني عارٍ تماماً، على مدار 40 سنة بنيتُ هذه الحياة العائلية والاجتماعية وصنعنا الكثير من القصص والذكريات، وما زالت لدى أطفالي أحلام لم يحققوها بعد، فكرة غيابهم عني تُشعرني بأنني وحيد ومنفي ومجهول، فاقد كل معنى الحياة ومغزاها”.
مشاعر العجز والصدمة
حسن الطهرواي، باحث فلسطيني، يرى أن هذه الحرب هي الأسوأ بما لا يقاس بالحروب السابقة، “مسألة قطع الاتصال تجعل الأمور أسوأ بمراحل… تمر الأيام ولم أحظَ بنوم هادئ إلا مرتين منذ بدء العدوان، يستيقظ كل شيء بالليل وشيء ما داخل عقلي يستمر بالصراخ فيّ، بأن هذا كله مجرد كابوس، سينتهي. سأتذكر الناس من دون أن أبكي، سأتذكرهم جميعاً ذكرى مسافر، لا ذكرى مودع للأبد. ولكن هذا الكابوس لا ينتهي، لا ينتهي وأنا لا أنام. أواصل البحث عن أسماء عائلتي فرداً فرداً على التلغرام كي أتأكد أنهم ليسوا أرقاماً الآن”.
” كل شيء ثقيل، ولا معنى له، المشي للعمل، والجلوس على المكتب والتظاهر بأن كل شيء على ما يُرام، إحساسي بأني بعيد يتضاعف عندما أكون في مكان يعمل كأن لا شيء يدور في غزة. لا توجد كلمات دقيقة لوصف العار، كيف يمكن أن أشرب كأساً من الماء أو أعيش من دون أن أكون محاطاً بأصوات انفجارات، بينما عائلتي وأصدقائي مهددون في كل لحظة”.
أن تسلك طريقين في آن
الفلسطينيون الذين أجبرهم الاحتلال والتهجير القسري على الانتشار في العالم، يتفاعلون بطرق مختلفة مع الحرب. هبة صبري المقيمة في دبي تقول: “أشعر أن هذه حرب أخرى علينا كمغتربين غير الحرب الموجودة في غزة، وأعيش تناقضاً مزعجاً جداً كأنه حمل ثقيل، أن تسلك طريقين في الوقت ذاته، عاجزة عن إيقاف حياتي والاستمرار بوظيفتي، والتفاعل مع من هم حولي، فيما أشاهد من بعيد ولا أملك القدرة على فعل شيء. نحن في صراع دائم مع أنفسنا، وأشعر أن روحي ثقيلة جداً، ومجبرة على أن أتعامل في مكان عملي بشكل طبيعي وأضع الابتسامة على وجهي كل يوم كأن شيئاً لم يكن. لا يوجد أي اعتبار لمشاعرك وقيمتك وصراعاتك الداخلية وقلقك الدائم على من هم في غزة، حيث عائلتي بكاملها هناك”.
إسراء المدلل من قرية البيطاني المهجرة، مقيمة في تركيا، تقول: “نحن جزء من ضحايا العدوان على غزة، حتى لو كنا بعيدين جغرافياً، فهذا لا يعني أن إسرائيل لا تغتالنا بكل ضربة على بيوتنا وعوائلنا وذاكرتنا الفلسطينية، وذكرياتنا في الشوارع التي مشينا فيها وضحكنا وصاحبنا. هناك الجامعة، وهناك المكان الذي عملت فيه أول مرة في 2008 كمقدمة برامج، وهناك أول ضحكات ودموع ذرفتهم بعد كل مرة كنت أسقط وأقف من جديد، ذكريات ومغامرات وقصص وحب وفرح ونجاح وثورة، ولم نكن نستطيع أن نُكمل من دون بعضنا البعض. لكن اليوم، البعض الثاني فُقِد. نحن اليوم في الغربة عاجزون عن الوقوف مجدداً، والتحدث والأكل والشرب بشكل طبيعي، لأن بعضنا الآخر انكسر، قُتل، دُّمِر، مُسح، قُصف، واغتُصب وسُرق، وأصبح من الصعب جداً أن نتعامل مع العالم الآخر كأنهم بشر طبيعيين. اليوم، يُقتل كل من في غزة علناً وبكل شكل ممكن، إنهم يقتلوننا بأسمائنا، بأسلحتنا، بقراراتنا، بقصصنا، وأحلامنا ونحن نرى ذلك بصمتٍ”.
تضيف المدلل: “لا أريد أن أعيش على أني واحدة من هذا العالم، الذي يخذل أهلي وأصحابي كل يوم، والسؤال هو: نحن كفلسطينيين في الخارج، ماذا تبقى لنا؟ عن أي وطن سندافع وإلى أي وطن سنعود؟ لم يتركوا شارعاً لنتعرف على معالمه، لا نعرف سوى أننا ممنوعون من العودة ودخول الأراضي الفلسطينية، نحن ننتقل من معاناة الى أخرى، وأصبحنا جزءاً من هذا كله”.
وتختم قائلة: “نحن في الغربة لا نختلف تماماً عمّن هم في الداخل، فنحن جميعنا فعلياً من دون أرواح، مقطعون، نازفون، مدمرون ومهددون، يلاحقوننا عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، يسعون إلى إخراسنا. أصبحنا في الخارج حاقدين على من هم حولنا، وهذا الحقد يدفعنا الى الصراخ في وجوههم جميعاً، وأن ننتفض ولا نسامح ولا ننسى أبداً، لا الرأي العالمي أوقف دمنا، ولا التضامن من الشعوب غيّر شيئاً، أتمنى أن أنام ولا أستيقظ”.