هناك كتب حين تقرأها تشعر أنك مدان، حتى وإن لم ترتكب أي خطأ في ما يتعلق بالموضوع المطروح. بعض هذه المواضيع تتقاطع مع تجارب القارئ سواء عاشها أو يعيشها، وبعضها قد لا يكون له علاقة به سوى ارتباطه بالنوع أو الجنس. فالإنسان بطبيعته يتحمل جزءا من مشاكل المجتمع والبيئة المحيطة به. أمّا إذا كنت رجلا فقد تجد نفسك مدانا من قبل المرأة بشكل خاص، سواء اعترفت بذلك أم لا.

هذه الإدانة ليست وليدة اللحظة، بل لها جذورها ومسبباتها، وقد جاءت لتتجلى في إعلان العديد من النساء رفضهن للتهميش.

الروائية السورية المقيمة في فرنسا مها حسن هي صاحبة الدعوى الجديدة ضد الرجل وهي من تدينه مع نساء أخريات من سوريا جمعت شهاداتهن والحوار معهن في جلسات تفاعلية عبر الإنترنت لمدة شهرين أصدرت بعدها وقائع ما جرى في كتاب بعنوان “بلاد النساء الآمنة: نصوص ونقاشات تفاعلية بين مجموعة نساء” عن “منشورات رامينا” في لندن.

لا تترك لنا الكاتبة مجالا لاستكشاف الكتاب وقراءة تجارب النساء عن حياتهن من خلال نصوصهن، وتقول لنا في مقدمتها خلاصة ما وصلت إليه أو استنتجته وهو “أنّ مشاكل النساء هي نفسها لدى الجميع، تتمحور حول الخوف وعدم الشعور بالأمان وعدم الكشف عن الذات الحقيقية، الذات الأصيلة، الأمر الذي يجعل النساء يعشن في حال تشوش ذهني وعاطفي، لأنهن لا يعرفن أنفسهن، ولم يتمكّنّ من تحقيق ذواتهن، بسبب التاريخ الفردي لكلّ منهن، والتاريخ الجمعي المتفق عليه من قبل عوالم الرجال الأكثر قوة كونهم أصحاب السلطة، سواء في العالم العربي أو العالم برّمته، لينفرد الرجال بتدوين التاريخ بما فيه تاريخ المرأة ذاته”.

 

مشاكل النساء هي نفسها لدى الجميع، تتمحور حول الخوف وعدم الشعور بالأمان وعدم الكشف عن الذات الحقيقية، الذات الأصيلة

مها حسن

ما أرادته الكاتبة عبر الجلسات التفاعلية هو خلق عالم آمن للنساء يبحن فيه بهمومهن عبر الكتابة، لتكتشف كما قالت “قوّة النساء الحقيقية”، حيث يخرجن “النسخة الأصلية الحقيقية من دواخلهن”. وهي تشير إلى أن بعض النساء لا يستطعن تحقيق رغبتهن بالكتابة فيلجأن إلى ممارستها بالسر، يكتبن لأنفسهن، ولا يجرؤن على مشاركة نصوصهن مع الآخرين.

الصوت البياني المحرّض في مقدمة الكتاب يتبعه إيضاح بأن ما قامت به الكاتبة هو طموح شخصي أرادته منذ فترة، وهو الاشتغال مع كاتبات ناشئات في ورشة لتعلّم الكتابة، إذ أن البعض في العالم العربي لا يزال ينظر الى الكتابة باعتبارها “إثما، وخاصة الكتابة الذاتية”. وهي هنا، كما قالت، اختارت نقل أصوات هؤلاء النسوة “خارج الأدب” أو في نوع آخر من كتابتها، بعد إنجازها 15رواية.

نجد في الكتاب الكثير من الملاحظات التي خرجت بها المؤلفة من هذه الورشة، منها أن إحداهن كانت تشير في بعض اللقاءات إلى وجود زوجها بجانبها، “زوجي هنا”، لتلمِّح إلى “أنها لا تستطيع الكلام بحرية”. فإذا كان الزوج يبدو شريكا وداعما إلا أنه “يحمل دائما تلك السلطة غير المرئية، التي توجه تفكير الزوجة وتحدد لغتها”.

كما تتحدث النساء عن المشاكل التي تواجه المرأة الكاتبة وعلاقتها بعمل البيت ومدى حرّيتها في الكتابة والنشر. فمنهن من يقلن إنهن لسن على ما يرام حين لا يجدن أحلامهن محققة وإنهن يكرهن التنميط الذي يطالبهن بـأن يكن كالأخريات. يتحدثن عن تجاربهن في الحياة سواء في سوريا أو في المنفى وكيف يتعاملن مع الخوف بكل أنواعه ومحاولتهن مقاومته. ولا يغفلن الحديث عن رؤيتهن لأجسادهن “الممنوعة من الظهور” وكيف ينظرن إلى تعامل المجتمع مع هذا الموضوع. تقول لويز “أستمتع بجسدي أثناء الاستحمام، أتأمل وجهي، وأشعر بالامتنان لنفسي لأنني أهتم بنفسي وبجسدي”.

هناك ما هو أكثر من ذلك، إذ يبحن بما يشبه الأسرار عن محاولتهن التصرف بأجسادهن بحرية ليستكشفن معالمهاـ إلا أنهن يشعرن رغم هذا التصرف “أن أجسادهن ليست لهن”. ما تقوله معظمهن يمثل إدانة للمجتمع المحيط بهن، كالتحرش والاغتصاب والعنف ومحاصرة المرأة بالنظرة الذكورية المقيدة لها.

مع كل ما تكشفه مها حسن في كتابها، تشير إلى أن المشارِكات “رغم انفتاحهن، بدت غالبيتهن محافظات أو حذرات” عند الحديث عن الجنس، مما أضطرها إلى عمل جلسات ثنائية لاستكشاف مشاكلهن المتعلقة بهذا الجانب، وهي مشاكل عادة ما صارت متداولة على نطاق واسع في الوسائط الاجتماعية مثل القول إن “عدد النساء اللواتي يصلن إلى النشوة الجنسية مع شركائهن أقل بكثير من عدد الرجال”، فتبدو المرأة “موجودة فقط لإمتاع الرجل”.

الكتاب يبدو مهما لكلّ امرأة تريد أن تكتشف مشاكلها التي عادة ما تخبئها أو تتجنب مواجهتها، كما يعتبر مهما للرجال الذين يهمهم أن يعرفوا صورتهم عند النساء اللواتي يقاسمنهن حياته، وهو أولا وأخيرا وثيقة عن حال المرأة العربية الآن.

غلاف كتاب “بلاد النساء الآمنة”.
التحرّر من الخوف
يختلف كتاب “نساء عدن: تنوير وتحرير” للكاتبة اليمنية سعاد عقلان العلس عن كتاب مها حسن، حيث يخرج من دائرة الشكوى أو البوح ويقدّم تجربة مميزة لنساء عدن خلال نشوء الحركات الوطنية التي سعت إلى التحرر من الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن (1839- 1967).

تقدم العلس في هذا الكتاب (طبع خاص/ عدن) وثائق مهمة عن كفاح المرأة اليمنية ضد الاستعمار، وسعيها لتحقيق وجودها في المجتمع. فتورد شهادات من نساء وطالبات قمن بتنظيم تظاهرات احتجاجية يطالبن فيها بحقهن في التصويت في الانتخابات وبمساواتهن بالطلاب في الدروس المخصصة حيث كن يتعلمن مواد لها علاقة بالتدبير المنزلي على عكس الطلاب الذين يدرسون مواد علمية. نقرأ في الكتاب قصصا فيها الكثير من الشجاعة كطباعة المنشورات وتوزيعها ضد المستعمر وذهابهن لقراءة المنشورات السياسية في المساجد، إضافة إلى كتابة مقالات يطالبن فيها بحق المرأة في السفور وعدم ارتداء الحجاب، وهي مقالات لم تشر الكاتبة إلى تاريخ ومكان نشرها.

تقدم العلس في هذا الكتاب وثائق مهمة عن كفاح المرأة اليمنية ضد الاستعمار، وسعيها لتحقيق وجودها في المجتمع

ما نلاحظه أن هذه النضالات تراكمت في ما بعد حتى حققت المرأة في جنوب اليمن ما لم تحققه المرأة العربية في كثير من البلدان، ويعتبر قانون الأحوال الشخصية الذي صدر عام 1974 في عدن من أهم القوانين المبكرة الخاصة بحقوق المرأة، وذلك قبل أن ينتكس هذا الوضع بسبب الأحداث التي عصفت في اليمن.

تسرد الكاتبة كيف واجهت المرأة اليمنية المتشددين الدينيين الذين وقفوا ضد الدعوة لتحررهن، ولجوئهن إلى استخدام الحجج الدينية والتاريخية أحيانا لمواجهتهم وبالذات كشفهن للفرق بين الدين والتقاليد. ومن ثم أصبحت مشاركة المرأة فعالة في المجتمع من خلال إنشاء الجمعيات والصحف الخاصة بالمرأة قبل أن تأتي حكومة الاستقلال وتمنع صدور الصحف والمجلات الأهلية. وتوثق الكثير من المقالات التي نشرت خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي بأسماء صريحة أو بأسماء مستعارة، مثل الكاتبة فوزية ع “عضوة جمعية المرأة العربية” التي كتبت: “أحب أن أقول بصراحة إن المرأة لم تخلق لتكون آلة للرجل يتحكم فيها متى وكيف يشاء، وإنها لم تخلق لتكنس وتغسل وتنام ولكنها خلقت لتعيش حرّة، وفي استطاعتها أن تكون أمّا مثالية وعالمة يفتخر بها الوطن”. وهناك مقال موقع باسم “حواء” يشير إلى أن بعض المؤرخين قالوا “إن العرب اقتبسوا عادة الحجاب من القسطنطينية وفارس ومعنى ذلك أن هذه العادة دخلت حياة العرب بعد أن اتسعت الدولة الإسلامية واختلط العرب بأمم أخرى”.

وإذ لا تتفق الكاتبة مع هذا القول فإنها ترى أن اتساع الدول الإسلامية صحبه نمو في الثروة لدى بعض فئات المجتمع فأصبحت لديهم امتيازات وتقاليد خاصة لتحقيق متعهم “فتأثر بذلك مركز المرأة”. ومما كتبته صافيناز خليفة ردا على من يزعمون أن الحجاب عادة إسلامية قولها: “إنهم لا يعرفون أن الحجاب هو سبب تأخر المجتمع، لأن انزواء المرأة عن ميدان الحياة قد جعلها عالة على الرجل الذي يكد ويكدح من أجل أن يجعلها تلبس وتأكل، فلا يستطيع أن يعمل أكثر من هذا ويظل طول عمره يدور في هذه الحلقة المفرغة”. وتنوه إلى أن الحجاب قد يخفي سلوك بعض النساء غير المرغوب به على عكس غير المحجبات اللواتي لا يستطعن القيام بذلك.

غلاف كتاب “كيف يكتب تاريخ المرأة اليوم”.
ما يلفت في الكتاب أن جبهات التحرر كانت تُعيِّن رجالا للإشراف على نشاط المرأة، كما حدث مع عبد العزيز الدالي حين أشرف على قطاع المرأة في الجبهة القومية.

كيف يُكتب تاريخ المرأة؟
في كتاب صدر عن معهد العالم العربي في باريس بعنوان “الكتابات النسائية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر/ كيف يُكتب تاريخ المرأة اليوم؟” نجد الكثير من الأبحاث عن بدايات الكتابة الحديثة خلال تلك الفترة.

الكتاب الذي ترجم ملخصاته إلى الفرنسية جساس أنعم، نتاج ندوة أقيمت في المعهد عام 2017 تحت العنوان نفسه، ولذا هو من الكتب المحدودة التداول.

وأد البنات الذي مورس في الجاهلية ظل يمارس في عصرنا الراهن من خلال ممارسة “الوأد الثقافي ضد الجنس المؤنث”

من خلال أبحاث لفاطمة الخواجا وخالد زيادة ومحمد سيف عبد التواب ونعيم تلحوق وهيثم الحاج علي ونبيل الشاهد وإلهام كلاب وعزة آغا ملك، نعرف رائدات الكتابة الروائية والشعرية والصحافية في العالم العربي، مثل عائشة التيمورية (1840- 1902) التي كانت تجيد عدة لغات مما خولها دخول ديوان الخديوي كمترجمة ثم رئيسة ديوان. وزينب فواز (1860- 1914) التي دعت في مقالاتها إلى تعلم المرأة ومشاركتها في المجتمع. وهي الدعوة نفسها التي تبنتها لبيبة هاشم (1980- 1947) وملك حفني ناصف (1886- 1918) ومريانا المراش (1848- 1919) في مقالاتهن. إلى جانب هند نوفل التي أنشأت مجلة “الفتاة” عام 1892 في الإسكندرية، ونازك العابد (1887- 1959) في سوريا وأليس بطرس البستاني التي أصدرت روايتها “صائبة” عام 1891، وغيرهن.

ويدرس معجب الزهراني مذكرات الأميرة العمانية سالمة بنت سعيد التي كتبت باللغة الألمانية ونشرت في برلين عام 1886.

غلاف كتاب”نساء عدن تنوير وتحرير”.
تناول الباحثون في الندوة/ الكتاب الكثير من القضايا التي واجهتها المرأة العربية حينها ومن بينها مسألة السفور والحجاب. ويرى خالد زيادة أن “الدعوة إلى تخلي المرأة عن الحجاب في مطلع القرن العشرين كانت تعني التخلي عن تقاليد متراكمة، وكان تحرير المرأة والدعوة إلى تعليمها جزءا من تحرير المجتمع والإنسان العربي ككل”.

وعن رائدات الرواية العربية يقول محمد عبد التواب أن وأد البنات الذي مورس في الجاهلية ظل يمارس في عصرنا الراهن من خلال ممارسة “الوأد الثقافي ضد الجنس المؤنث”. وينقل عن بنت الشاطئ قولها “إن مؤرخي الأدب قد تعمدوا طمس أدب المرأة العربية في عصورها الماضية، وأنهم قد ألقوا بآثارها في منطقة الظل. ومارس عصر التدوين ورجاله بخس النساء حقوقهن”.

ويتوقف بطرس حلاق أمام مصطلحي تحرير وتحرّر فيقول إن الكتابات التي دعت حينها إلى تحرير المرأة ومنها كتابات قاسم أمين كانت تقصد “تحرير المرأة وليس تحرّر المرأة بذاتها، فالتغير لا ينبع من الذات وإنما يأتي من الخارج، وحصريا عن طريق السلطة التي يملك زمامها الرجل، فهو المسيطر على كافة المؤسسات السياسية كما الدينية”.