النصف الثاني من الشهر الحالي وما يليه من أسابيع هو ملك «نابوليون»، الفيلم الجديد للمخرج ريدلي سكوت. لم يُكشف بعد عن ميزانيته، لكنها تقترب أو تتجاوز بقليل 150 مليون دولار، والطموح هو أن يتجاوز ضِعف هذا المبلغ في غضون أسبوعين وفوقهما نحو 300 مليون دولار أخرى.
ينضم الفيلم هذا بجدارة إلى أفلام سكوت التاريخية، وهو الذي بدأ باكراً في مشواره مخرجاً عندما حقّق «المتبارزان» سنة 1977، وأنجز بعده «1492: غزو الجنة» (1992)، و«غلاديايتر» (2000)، و«مملكة الجنّة» (2005)، و«روبين هود» (2010).
هذا هو اللقاء الثاني بين ريدلي سكوت والممثل يواكيم فينكس، الذي كان أدّى الدور الثاني أمام راسل كرو في «غلاديايتر» وكان الفيلم الأخير للممثل الراحل أوليفر ريد.
قال سكوت لهذا الناقد في عام 2018 عندما سألته سبب اهتمامه بالتاريخ: «اهتمامي بالأفلام التاريخية طبيعي، لأني لا أتصور أن هناك من يستطيع تجاهل التاريخ أو ينفيه».
ورداً على سؤال آخر: «أشعر طوال فترة تصوير أي فيلم تاريخي بأنني مسؤول أمام عملية إعادة ما حدث على أكثر من نحو. هناك مسؤولية نقل الحقائق بصياغة سينمائية، وهناك مسؤولية طرح بعد يربط العالمين الحالي والماضي معاً».
تأكيداً على ولعه بالأفلام التاريخية وحبّه لسينما «سيسيل ب». دَميل وأفلام هوليوود التاريخية في الخمسينات والستينات، يبدأ سكوت قريباً إنجاز جزءٍ ثان من فيلمه السابق «غلاديايتر» مع دنزل واشنطن، هذه المرة في البطولة عوضاً عن رَسل كرو، الذي أسندت إليه بطولة الجزء الأول.
كان ديفيد سكوربا (كاتب سيناريو «نابوليون» الحالي) بدأ كتابة «غلاديايتر 2» في عام 2018 وسيتوجه به سكوت إلى المغرب ومالطا وبريطانيا لإنجازه، على أن يكون حاضراً للعرض بعد سنة من الآن في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. بذلك يكون المخرج المغرم بالتاريخ قد حقق فيلمين ضخمين الواحد تلو الآخر. مرّر أصعبهما أولاً وأبقى الفيلم الأضمن نجاحاً لكي يكون إنتاجه التالي. بذلك، يكون «نابوليون» في إحدى وظائفه نوعاً من الاختبار، علماً بأن النقاد الذين شاهدوا الفيلم الجديد أثنوا، في غالبيّتهم، على فيلم سكوت من نواحٍ متعددة.
خلفيات سينمائية
نابوليون بونابرت (1769-1821) كان قائداً عسكرياً فذّاً وعاشقاً كبيراً لزوجته جوزفين (فانيسا كيربي في الفيلم الجديد) بعدما تزوّج سابقاً كما اتخذ لنفسه عدداً من العشيقات. بعض ارتباطاته العاطفية أنجبت له أولاداً، لكن زواجه من المرأة التي أحب، جوزفين، لم ينجب له أي وريث.
لكن الرجل مشهور بغزاوته وحروبه التي امتدت من إسبانيا إلى مصر، ومن الجنوب الإيطالي إلى روسيا مروراً بهولندا وألمانيا وجمهورية التشيك والنمسا لجانب دول أخرى.
بعض المؤرخين يعدّونه مسؤولاً عن نحو 4 ملايين إلى 6 ملايين قتيل سقطوا صرعى طموحاته العسكرية. وواحدة من غايات المخرج سكوت المصرّح عنها هي الربط ما بين تلك الحروب وما يقع اليوم وفي خلفية أذهان مشاهديه. وهو كان قصد الغاية نفسها عندما أخرج «مملكة الجنة» سنة 2005، الذي دار حول الحرب الصليبية، وأشار خلالها إلى الصراع الفلسطيني في الواقع الحاضر.
على الشاشة، صُوّرت قصة حياة وحروب نابوليون مرّات عدّة، إما عنه مباشرة أو في ثنايا الحديث عن الثورة الفرنسية التي استمرت وقائعها عشر سنوات (من 1789 إلى 1799).
نابليون كان شاغل السينما منذ سنة 1927 عندما أقدم الفرنسي آبل غانس على تحقيق ملحمة عن القائد مدتها أكثر من خمس ساعات متناولاً حياته من بداياتها في مكان ولادته (جزيرة كورسيكا) إلى نهايته مروراً بحبه لجوزفين التي يذكر الفيلم بوضوح أنها كانت ملهمته طوال الوقت «كما لو كانت حربه تأكيداً لها على بطولته وفروسيته»، كما يرد في الفيلم.
في عام 1954 مثّل مارلون براندو شخصية بونابرت في «Désirée» لهنري كوستر. الفيلم كان عذراً أكثر منه عملاً فنياً جيداً، وهو وُلد في العام نفسه الذي أطلق فيه براندو أحد أفضل أدواره على الشاشة في فيلم «على جبهة الماء» (On the Waterfront) لإيليا كازان.
هزيمة ووترلو
بعد أن خمدت نيران الهجمة الهوليوودية الأولى في الخمسينات، اقتبس المخرج الروسي سيرغي بوندارتشوك، سنة 1965، «حرب وسلام» لليو تولستوي، التي امتدت ست ساعات و55 دقيقة، ولو أن هناك نسخاً أقصر (في حدود ساعتين ونصف) تؤمّن رغبة من لا يريد مشاهدة كل رواية تولستوي.
الفيلم الملحمي له طريقته الخاصة في عرض الأحداث التاريخية التي سبقت، بالطبع، انهيار حكم القياصرة الروس. ظهور شخصية نابوليون (أداها الروسي فلاديسلاف سترزهيلكيك) ليس طاغياً عن الفيلم لأن الحكاية في الأصل ليست عنه، بل هو جزء من فصولها. فيلم بوندارتشوك ممارسة في أسلوب التصوير حيث تتحرك الكاميرا في المشاهد الداخلية كما لو كانت ترقص على بلاط القصور التي يتم التصوير فيها، وفي المشاهد الخارجية كما لو كانت جزءاً من الحرب.
لكن بوندارتشوك عاد إلى شخصية نابوليون بعد خمس سنوات على «حرب وسلام» ليقدم نسخته عن نابوليون بونابرت في فيلم «ووترلو». المنتج كان عاشق الإنتاجات الكبيرة دينو ديلارونتيس والتمويل من شركة باراماونت واللغة المحكية إنجليزية.
لعب رود ستايغر بطولة هذا الفيلم. بوضوح، حاول جاهداً تقديم صورة شخصية مناسبة للإمبراطور الشهير خلال واحد من أشهر مواقع القتال التي خاضها. لكن سعيه لم يكن انغماساً في الشخصية بقدر ما كان تمثيلاً لها لا يخلو من الاستعراض.
لسبب أو لآخر لم يتقدّم للأوسكار بل رُشح لجوائز البافتا البريطانية، حيث خرج بجائزتين واحدة عن تصميم الملابس والأخرى عن تصميم المستلزمات الفنية (ما يُسمّى اليوم بتصميم الإنتاج). تجارياً سقط الفيلم في حفرة العروض السينمائية وتحوّل إلى أحد معالم الإنتاجات الكبيرة التي لم تلقَ اهتماماً لدى الجمهور.
نابوليون – شاهين
في مقابل هذه المجموعة الأساسية من تاريخ ظهور نابوليون على الشاشة، لا بدّ من إضافة فيلم يوسف شاهين، الذي أثار الجدل منذ إنتاجه سنة 1985 ومن ثَمّ كلّما ذُكر في سياق مراجعة أعمال المخرج.
الواقع أن الفيلم يحمل عنواناً يمكن اعتباره استفزازياً. كلمتا «وداعاً وبونابرت» تميلان إلى نوع من النوستالجيا والعاطفة، كما لو أن المرء يودع شخصاً عزيزاً عليه. طبعاً يمكن اعتبارهما مجرد عنوان رآه المخرج مناسباً، لكن ماذا تفعل في المعالجة الودّية لشخصية كافاريللي (أداها ميشال بيكولي) التي بدت كما لو جاءت إلى مصر ليس لأجل هندسة الاحتلال (وكان ضابطاً مسؤولاً عن إرساء قواعد الاحتلال والاشتباك في حملات نابوليون في نهايات القرن الثامن عشر).
لم يتّفق لا نقاد مصر ولا نقاد فرنسا (الفيلم موّل عبر مخصصات الحكومة الفرنسية) على رأي مشترك فيما يتعلق بهذا الفيلم. النقاد المصريون انقسموا بين الإعجاب لبراعة المخرج في سرد التاريخ وأبرز دوراً مصرياً في لقاء أراده شاهين حضارياً بين شخصياته المصرية والفرنسية (بمن فيها بونابرت الذي أداه باتريس شيرو) وبين الذين انتقدوا الفيلم على أساس أن المخرج هادن الفرنسيين على حساب مقاومة الشعب المصري لذلك الاحتلال.
بدورهم انقسم نقاد فرنسا حسب مواقعهم، لكن معظمهم كان متفقاً على مهاجمة الفيلم. اليمين الذي وجد أن المال الفرنسي لا يجب إهداره بإنتاج أفلام لا تبرز الوجه الحضاري لفرنسا، واليسار رأى أن الفيلم ميّع أهم ما في حملة نابوليون العسكرية على مصر، وهي أنها كانت حملة احتلال عسكرية بالدرجة الأولى.
في حين أن صورة نابوليون الشخصية لا تشهد اختلافات كبيرة في أوساط المؤرخين كمواصفات سلوكية أو كملامح بدنية، إلا أن المرء يشعر إثر مشاهدته كل ما تقدّم من أفلام كما لو أن السينما ما زالت تأخذ جانبي بونابرت على نحو لا يخلو من التكرار.
طبعاً كان من فرسان فرنسا، ومن ثَمّ أبرز قادتها في التاريخ، وكان الزعيم الذي استُعيد من منفاه ليتبوأ قيادة فرنسا، كما أن حبه لجوزفين مؤرخ بالتفاصيل الضرورية، لكن المرء يتساءل عما إذا كان هناك وجه ثالث لهذه الشخصية لم تكتشفها السينما بعد، ربما لأنها ليست مثيرة لما تريده من شخصيّته وهو نابوليون الأسطورة.
نابوليون حسب كوبريك وسبيلبرغ
خلال حضور المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ مهرجان برلين في مطلع السنة الحالية، صرّح بأنه يُنتج نسخة جديدة عن حياة نابوليون بونابرت وحروبه، وذلك عن خطّة إنتاج وسيناريو أول كان المخرج الراحل ستانلي كوبريك قد وضعهما مشروعاً مقبلاً. المشروع الذي يتحدّث سبيلبرغ عنه كان بحوزة كوبريك منذ سنوات بعيدة، تحديداً بعد إخراج سيرغي بوندارتشوك «ووترلو». كانت خطّة كوبريك حينها إسناد شخصية القائد الفرنسي إلى جاك نيكلسون وجلب أودري هيبورن لتكون جوزيفين. عندما فشل «ووترلو» تجارياً، تراجع كوبريك عن المشروع برمّته. مشروع سبيلبرغ سيتألف من 7 حلقات تلفزيونية بوشر بكتابته وينتظر الانطلاق بتنفيذه تحت إدارة سبيلبرغ الإنتاجية. لا بدّ من ذكر أن نسخة كوبوريك التي لم تتحقق نصّت على الاستعانة بـ40 ألف ممثل. هذه الأيام يمكن تأليف هذا الرقم بمجرد استخدام التقنيات الحديثة.