لم تعد سوريا دولة بقدر ما أصبحت ساحة للمبارزة بين إسرائيل وإيران، وبين الأخيرة والولايات المتحدة، ساحة خاوية من البشر أو أقرب لحقل رماية مفتوح. نظام دمشق خارج محفوظاته عن إسرائيل وأميركا، والمعارضة السورية مع قراءاتها الخاطئة الدائمة، لا يبديان أيّ شكل من أشكال الاحتجاج والمطالبة الجدية بوقف معارك الآخرين والاستهدافات المستمرة الواقعة على أراضيها. ولئن كان صحيحاً أن السوريين أمسوا خارج المعادلة السورية، إلّا أن حق رفض حروب الآخرين في سوريا وإبداء الموقف هو جوهر العمل السياسي الذي يفتقر له النظام والمعارضة سواء بسواء، ولعل هذا الافتقار هو تعبير حقيقي لذيلية سياسية باتت تدمغ سلوكيهما.

لاذت حماس والفلسطينيون بدور عربي، مصري – سعودي – قطريّ، لأجل فرض هدنة إنسانية أو إنهاء الحرب على غزة، فيما غابت سوريا عن دائرة المناشدات، ذلك أن المناشدين يدركون فوات دور سوريا وتآكل دولتها وتهتك نسيجها الاجتماعي وغلبة أدوار الفاعلين الأجانب على أدوار نظامها، هذا فضلاً عن تهافت المعارضة وقلة حيلتها داخل وخارج سوريا بعد أن كانت قوّةً سنية نامية في وقت سابق، وأدرجت في عداد القوى السنية العريضة التي رعتها تركيا في المنطقة. والحال أن غياب السوريين عن مجرى الحدث الدائر في غزة إنما هو تعبير عن تحييد الدور السوري فيما خص التأثير في وعلى “القضية الفلسطينية”.

نشطت الساحة السورية مع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو المتوقّع بالنظر إلى طبيعة أدوار إيران العابرة للحدود لاسيما في سوريا. دمّرت إسرائيل مطاري حلب ودمشق واستهدفت مواقع سورية أخرى بكثافة تجاوزت العشرين ضربة منذ الثلث الأول من أكتوبر الماضي، ونشرت صحفها تهديدات على لسان سياسيين مجرّبين في حروب سابقة بتدمير دمشق إذا ما “تورّطت” في حرب غزة. بالمقابل، تقول بعض الأنباء إن إيران التي تتولى قرارات الحرب والسلم تجاه إسرائيل وتقود محوراً منضبطاً، تراكم قواتها وأسلحتها بالقرب من الجولان المحتلّ، مضيفة أن النظام ليس له علم أو دور بما تفعله إيران في أخطر مكانٍ بسوريا، وهو خبر يمكن تصديقه بالنظر إلى طبيعة الانتشار الإيراني وتغوّل مليشياتها وهوان النظام وصعوبة اعتراضه على أيّ استراتيجية إيرانية، حتى وإن كانت قاتلة.

ويدخل في باب النشاطية الإيرانية، في أعقاب حرب غزة، ما تقوم به من استهدافات للأصول الامريكية في العراق وسوريا (التنف ودير الزور والحسكة)، معتمدة على المجموعات التابعة لها، والحديث هنا عمّا يزيد عن سبعين ألف مجنّد موزّعين على ألوية وأفواج ومجموعات بعضها إيراني والآخر سوريّ مأجور أو عشائريّ مأخوذ بلعب أدوار أكبر من حجمه وقدراته.

قد يكون أفضل ما في الاستهدافات الإيرانية أنها تخطئ أهدافها على الدوام، ربما يحدث ذلك عمداً، إذ لم تتسبب الصواريخ الإيرانية حتى اللحظة في مقتل جنود أميركيين وإن كانت قد تسببت في إصابة ما يزيد عن خمسين جنديّاً ومتعاقداً مع القوات الأميركية، وإذا كان المراد من كل هذه الاستهدافات الإيرانية هو توجيه رسالة لإدارة بايدن مفادها أن إيران قادرة على توسيع رقعة الصراع، فإن الرسالة لا تكاد تختلف عن الاستهدافات السابقة في العراق وأربيل وسوريا.

في واجهة المشهد تبدو واشنطن متحفّزة لشن هجمات إضافية على المنشآت العائدة للحرس الثوري الإيراني في شرقي الفرات. وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن وصف الاستهدافات الأخيرة للمجموعات التابعة لإيران في دير الزور بأنها “دفاع عن النفس” وأن قوّاته قد تكرر الأمر إذا تكررت هجمات الإيرانيين، لكن الولايات المتحدة، رغم لعبة الاستهدافات المتبادلة والتهديدات بالرد، تبدو مدينةً لإيران التي وافقت على مضض بعدم توسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل خارج غزّة، فيما السؤال عن الأثمان التي ستتلقاها إيران عن سلوكها المنضبط وقبولها بالخسارة الجزئية المتمثّلة بالتفريط بشيء من سمعتها نتيجة التخلّي عن حماس في لجة المعركة التي تخوضها بمفردها.

ولا يجب أن يغيب عن أي تحليل القول إن المزاج العام في واشنطن، وإن كان يؤيّد بشدّة معاقبة إيران، فإنه لا يؤيّد إشعال حرب أميركية أخرى في الشرق الأوسط، فالانقسام السياسي في الولايات المتحدة يحد من احتمالية اندلاع أي حرب. هذه الحيرة الأميركية تدفع إدارة بايدن إلى التركيز على تطويق الحرب بدل تأييد المنحى الذي سعت إليه حكومة نتنياهو ومحاولتها غير مرّة جرّ حزب الله وسوريا إلى حرب استباقية متزامنة مع الحرب على غزة. والحال أن معادلة التوسّع الإيرانية القصوى لا تكتمل بلا سوريا، أي بلا الجغرافية السورية بأحوالها الراهنة البائسة، حيث نظامها السياسي غير القادر على إنتاج أي حل ينهي أزمتها، فيما مجتمعها مثقل بالحرب الأهلية والفقر والبيئة الاقتصادية والخدمية المدمّرة، وهو ما يعني أن إيران تجيد النفاذ من الفوضى وتوظيفها في صالح نزوعها الإمبريالي على حساب السوريين، وإذا كانت حروب الآخرين على الأراضي السورية في هذه الأثناء تمثّل صدى لما يحصل في غزّة، فإن ابتعاد السوريين عن هذه المعارك بات مهمة مستحيلة مع انخراط سوريين في أفواج ومجموعات تتبع إيران مستعدّة لأن ترتكب حماقات لا تدخل في المطلق في صالح سوريا ولا في صالحهم كذلك.