اعتدنا على تكرار العبارات التالية:
“أنت لم تختر وطنك ولا أبويك. أنت لم يكن لك خيار في جنسك أو دينك أوعرقك”
وهذا صحيح، لكن لو نتوقف قليلاً ونطرح بعض التساؤلات، قبل التفاخر بالنسب والعرق، والوطن والدين.
حسناً، لنذهب بالتفكير أبعد قليلا. سأدخل في الموضوع مباشرة وأتحدث عن سوريا، البلد الذي فيه ولدت ونشأت ولكن قبلاً آمل معرفة التالي..أصولي كردية من جهة أبي، وحتى عام 1969 بقيت مكتوما بلا قيد في السجل المدني لمدينة عامودا بمحافظة الحسكة، الأمر الذي أثر على مستقبلي في إكمال الدراسة كباقي السوريين المسجلين؛ رغم ذلك انتمائي لسوريا واعي، ولا يقل عن أي سوري آخر ولد بقيد وسجل مدني أبا عن جد. لم أنشأ في بيئة كردية ولا ربيت على ثقافة كردية، إضافة لقراءات وقناعات فوق إثنية وفوق قومية..أذكر هذه التفاصيل لأقول أن هذه الخلفية وفرت لي هامش للنظر من مسافة مختلفة قليلاً..
إن خاطبت جيلي (أنا تولد 1955، أبي 1930 وجدي 1900 هذا على سبيل المثال) فان جدك على الأرجح ولد بداية القرن العشرين أو بنهاية القرن التاسع عشر، في الزمن العثماني؛ ترعرع في ظل الفرنسيين؛ دمعت عيناه فرحا بالاستقلال والجلاء. ثم سريعا تعلم فنون الانقلابات العسكرية في زمن حسني الزعيم (ومن أتى بعده بانقلاب)؛ ذاق الاضطهاد السياسي في زمن (زعيم الأمة العربية)؛ وربما عاش شطرا من حياته بين انقلابات البعث، وان كان محظوظاً قد عاصر (القائد الخالد) وكغيره من السوريين كان ينشد الستر والسلامة في ظل حكمه المديد، دون أن ينل أيا منهما!
ذكرت المحطات السابقة لأقول التالي، من جدك لأبيك وصولا لك، لا يد لكم بالحدود الجغرافية لسورية التي ولدتم عليها؛ فضلاً عن أي أحد من السابقين، أو منّا نحن الراهنين، قد اختار التنوع السكاني الديموغرافي الذي وجد نفسه فيه بمحض الصدفة التاريخية؛ وقطعا لا أسم البلد أو شكل العَلَمْ أو النشيد الوطني تم الاستفتاء على أي منها؛ هم بضعة سياسيين وحسب من ساهم بوضعهم-ولا مشكلة بذلك-لكن الدفاع عن أي منها بشكل متعصب وأعمى، أحيانا يدعو للاستغراب أوحتى للضيق من طريقة تفكير (العقل السوري) ان جاز لي قول ذلك، ومدى غياب أو تراجع العقلانية والتأمل بالمصلحة العامة (والخاصة كذلك!) وبأن ما سبق ليس شيئا مقدسا، فقد أوجده بشر، سياسيون، بلحظة تاريخية معينة، بالتالي يمكن أن يتغير بظرف تاريخي آخر. سأكرر قولي دوما، المعيار الرئيس ينبغي أن يكون المصلحة العامة لأغلبية السكان (من الرائع تحقيقها للجميع، لكنه مستحيل ان احترمنا علم الاجتماع وتفاوت السكان واختلافهم عن بعض على أكثر من صعيد)
ما أريد قوله، أن الجغرافيا السورية الحديثة (وكل جغرافية منطقة الشرق الأوسط) تشكلت حين تقرر تقاسم تركة (العثماني المريض 1916-1917) وفق مصالح الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، ولا دخل لمصلحة السوريين (بدءا من جدك المحترم باعتباره حضر ولادة المملكة السورية والجمهورية السورية والجمهورية العربية السورية، وصولا اليك حفيده في زمن حارق البلد ونسيجه!) ولا دور لهم بقرار المستعمرين أبدا، ولا لرغبتهم بالبقاء على هذا الجانب من الحدود أم على ذاك الجانب.. كل الذين يعيشون على جانبي الحدود الجغرافية المحيطة بسوريا، يعلمون عن المعاناة الناتجة عن شق الأسر والعوائل والعشائر على طرفي الحدود وفصلهم عن بعضهم البعض. تلك الحدود المصطنعة والمرسومة من قبل سايكس وبيكو، لا يزيد عمرها اليوم عن مئة عام إلا قليلاً.
مع ذلك تبدلت الحدود أكثر من مرة، ساح بعضها، أكلت وقضمت من كل الجهات..
ملخص القول، لا يوجد شيء ثابت ولا مقدس، طالما هو من صنع البشر، خاصة وهم بشر سياسيون، قبلوا حينها بالأمر الواقع لاختلال ميزان القوى أو لخلل فيهم بتقييم المصلحة العامة لسوريا الوليدة اصطناعاً.
لنذهب إلى زاوية أخرى. أعني السوريين الذين يعيشون في الدول الأوروبية منذ بضع سنوات، لا بد أنهم لمسوا الكثير من الميزات الحضارية الإيجابية للنظام الديمقراطي (الرأسمالي) من حيث الضمان الصحي والاجتماعي لعموم السكان، من حيث تأمين الحد الأدنى للعيش بالنسبة للعاطلين عن العمل، ومن حيث إتاحة الفرصة لكل ذي كفاءة أو لكل مجتهد كفؤ. وبالتأكيد لاحظوا كذلك تأسيس وتأمين خدمات جيدة في البنى التحتية، من طرق ومواصلات متنوعة واتصالات وكهرباء وما شابه، وفوق كل ما سبق، احترام القانون واحترام الانسان وحقوقه (بما يسمح به النظام الرأسمالي الليبرالي الحر؛ وهو جيد حقا بالقياس لكل الأنظمة والتشكيلات الاقتصادية السياسية القائمة والساقطة والمندثرة حتى اليوم)..وهو لا يقارن ولا بأي بلد عربي أتى منه اللاجئون أو المهاجرون!
(طبعا سيبقى الانسان يطمح نحو نموذج حكم فيه المزيد من الحريات ومن الحقوق ومن العدالة الاجتماعية والرفاهية).
أعود للسوريين في سورية (همي الرئيس).. ماذا يحتاج الانسان، مطلق انسان، غير ذلك؟
تأمين احتياجاته الأساسية وشعوره بالحرية وبالأمان وبأنه مواطن في دولة قانون..تلك الحاجات هي التي تعزز شعوره بالانتماء لوطن ما (بحدود وعلم ونشيد) دون عصبيات أو تعصبات مرضية. لأن من يتعصب بعد ذلك لبلده، لعلَمه أو لنشيده، سيدخل في خانة الشوفينية والعنصرية وأخواتها بالتطرف.
سأغامر بالسؤال لكل سكان المنطقة العربية، هل يوجد فيها مواطن يتمتع بأي من تلك الميزات؟ أقصد العيش في بلد يسوده القانون والمساواة وحرية التعبير، أو بالحقوق والواجبات في أي من الدول العربية القائمة راهنا؟ سأجيب دون مغامرة، بلا واضحة! هل هذه صدفة؟ أيضا لا!
سأعود لغايتي من كل ما سبق، لا تعنيني الجغرافيا أياً كانت مساحتها أو حدودها. ما يعنيني هوالانسان وحقوقه ومصالحه فيها، ذاك هو الأساس. لكن من ذا الذي يقبل بذلك، ناهيك عن استيعابه، وقد رُبّي طويلا على أيديولوجيا وشعارات تمجد التراب والحدود (المصطنعة) تمجد العرق والقومية والحزب والقائد؛ لينسى الجوهر، الانسان وكرامته!
نظرتي هذه ليست رومانسية، بل هي نظرة ذات طابع مبدأي بعيد المدى، محورها الانسان كقيمة عليا!
فمثلاً، تتمتع دوقية لوكسمبورغ بثاني أعلى نصيب للفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم بعد قطر..رغم أن مساحتها تزيد قليلا عن ألفين وخمسائة كيلو متر مربع، مع عدد سكان أقل من سبعمائة ألف نسمة. كذلك تعيش دولة ليختنشتاين بمستوى من الدخل متميز عالمياً، رغم أن مساحتها تقارب 160 كيلومترًا مربعًا فقط، بعدد سكان يقارب 39 ألف نسمة. هما دولتان أوروبيتان بمساحات متواضعة جداً، رغم ذلك هي دول ناجحة..
بالمناسبة الصين حتى الأمس القريب\1980\ كانت دولة نامية، بل أقرب للفقيرة، وهي من أكبر دول العالم مساحة وعدد سكان. وخلال أربعين عاما وحسب، قفزت لتكون واحدة من أعظم اقتصادات العالم، وارتفع مستوى معيشة السكان لمستويات جيدة ملحوظة. تخيلوا بات لديها ما يزيد عن 600 مليارديرا رغم حكم الحزب الشيوعي للصين رسميا!).المثال الأوضح ألمانيا التي خسرت قسم من أراضيها لصالح بولندا، لكن لنرَ أين اقتصاد بولندا وأين اقتصاد ألمانيا عالمياً اليوم.
والآن سآتي بمثال إسرائيل (رغم أنه لن يعجب كثيرين) هي دولة أحدثت بقرار دولي ظالم في عام 1948 نتيجة تفاهمات واتفاقات دولية في حينها. قبلها كانت الدول العربية قد تشكلت ملامحها على مدى سنوات عديدة؛ لكن الحصيلة أن إسرائيل دولة ناجحة والبقية دول فاشلة أو يكادون..نعم الدعم الغربي كان له أثر كبير على بقائها وتطورها لكن هذا نصف الحقيقة، النصف الثاني أن اليهود\الإسرائيليين عملوا بجد واجتهاد-وما يزالون!-وببراغماتية عالية على تحسين شروطهم، بلدا ودولة ومواطنين. اليوم الاقتصاد الإسرائيلي متقدم على عموم اقتصادات الدول العربية تقنيا وتكنولوجيا وعلميا..حتى بالمعنى السياسي هي بلد يسوده نظام ديمقراطي-مع أنه واقعيا واجرائيا يوجد تمييز كريه بممارسة تلك الديمقراطية من قبل السلطات الإسرائيلية اتجاه العرب الفلسطينيين وحقوقهم. لكنه يبقى نظام ديمقراطي بالتعريف (حتى وان لم يعجبنا ذلك!)..والملفت استطاعتهم الحفاظ عليه رغم المحيط العربي الاستبدادي العدائي، أنظمة وشعوباً..
القصد، ليست الجغرافيا ولا مساحة الأرض هي من تحدد أو تقرر طريق التطور ومستوى المعيشة لدى هؤلاء السكان أو لدى ذاك الشعب المعني.. من يحدد ومن يقرر السكان أنفسهم ومن خلفهم قيادة سياسية واقتصادية ذات رؤية بعيدة، وذات مصلحة (لا أغفل دور العامل الخارجي، الأقليمي أو الدولي، لكني أركز على الدور الداخلي، فهو الأساس بالنسبة لمنظوري، وأهمل شأن النظرة المؤامراتية وأتحاشى حديث المظلوميات المتعب) يحصل ذلك بوجود مقومات الدولة الحديثة، مؤسسات وسلطات ومجتمع يسودهم جميعا القانون.. القانون الذي يرعى مصالح الناس ويحفظ حقوقهم فعليا..
ربما قرأ الكثير منكم مذكرات خالد العظم، وعرف عن تجربته سواء في تأسيس بعض المنشآت الوطنية الحيوية، أو في دعم العملة السورية، وحتى خططه الواعية بإرسال بعض الطلبة للدول الأجنبية ليتعلموا العلوم التطبيقية وفنون الصناعة ويعودوا للمساهمة بنمو سورية وتطويرها! وهذا مثال واحد. فعالمنا يذخر بالعديد من الأمثلة لمن أراد العبر.
الخلاصة، لا احتلال الجولان ولا اقتطاع لواء اسكندرونة ولا النزاع حول ملكية مزارع شبعا، أعاقت استمرار حياة السوريين بالعمل والتعليم وتكوين الأسر الخ. ولا هي كانت العامل الحاسم بالبقاء أم بالهجرة لتحسين الشروط الخاصة للناس. استمرت الحياة رغم شعارات المقاومة والقتال والتحرير، ورغم الحروب الفاشلة. وهو ما يعني إمكانية البناء والتطور التكنولوجي وتحسين معيشة السكان ورفاهيتم؛ كذلك يعني إمكانية تحقيق حرية السوريين وحقوقهم الدستورية والقانونية فعليا، شريطة توفر فئة سياسية وطنية مخلصة ذات رؤية واصرار حاضرين تجاه البلد والسكان، بغض النظر عن أي اعتبار يتعلق بالأرض المحتلة، طالما وضع ذلك بالاعتبار الاستراتيجي (للأسف، لأكثر من ستين عاما لم نحظ بمثل تلك الفئة السياسية الوطنية)..المقصد وجود دولة ديمقراطية ناجحة هي من توفر امكانية إنجاز سياسي وحقوقي لاسترجاع الأراضي المحتلة أو الاتفاق حول مستقبلها، طالما الغاية حقوق الانسان ورفاهيته، وطالما يتم الأمر بخيار السكان أنفسهم..
(عسى ينتهي التقديس لأي شيء باستثناء حقوق الانسان وكرامته!)
#مروان – تشرين الثاني 2024