اختتم مهرجان الادب الأوروبي الذي عقد كما كل عام في مدينة كريمس النمسوية أول من أمس الأحد بمنح جائزة اتحاد الناشرين النمسويين لـ “التسامح في الفكر والعمل” للكاتب والمحامي البريطاني فيليب ساندز، وهي جائزة سنوية تأسست عام 1990 وأصبحت توزع منذ عام 2017 في ختام المهرجان الأدبي المعروف في الدول المتحدثة بالألمانية.
وعبر صاحب كتاب “عالم بلا قانون، أميريكا وصنع القواعد العالمية وكسرها” (صدر عام 2005) عن سعادته بنيل الجائزة على رغم أنه “ليس روائياً أو شاعراً”، بل مؤلف كتب غير سردية وقال بأنه سيتبرع بمبلغ الجائزة وقدرها 10 آلاف يورو لمؤسسات “تهتم بحقوق الإنسان والموسيقى والهاربين من الحروب”. وكان ساندز كرر عدم ارتياحه للنظر إليه كلندني أو بريطاني أو يهودي، بل “يهمني أن ينظر إلي كفرد يدعى فيليب ساندز كواحد من هؤلاء البشر الذين يودون أن يصبحوا سواسية يوماً ما”.
واشتهر ساندز المولود عام 1960 والذي نشر حتى الآن 16 كتاباً في القانون والسيرة والمقالات من خلال كتابه “شارع شرق غرب” (2016)، وهو كتاب يتحدث فيه عن الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ومن خلاله حصل على كثير من الجوائز في بريطانيا وأوروبا مثل جائزة “بيللي جيفورد” (2016) وجائزة “الكتاب البريطاني” (2017) وجائزة “مونتين” (2018) وترجم إلى لغات عالمية. وكان آخر كتاب لساندز صدر العام الماضي بعنوان “المستعمرة الأخيرة، جرائم ضد الإنسانية في المحيط الهندي”.
لغة الحيوانات
وكانت أيام الأدب الأوربي لهذا العام 2023 افتتحت الخميس الماضي بلقاء جمع الكاتب النمسوي الشهير ميشائيل كولماير (1949) والفيلسوفة النمسوية آن صوفي ماينكه (1979) حول المحور الذي جاء عنواناً للمهرجان، وهو “الحيوانات والبشر الآخرون”.
وقرأ كولماير الذي حصل على أكثر من 25 جائزة أدبية في أدب الكبار والأطفال، ونشر أكثر من 50 عملاً في الرواية والقصة وغيرهما، من بعض كتبه التي استخدم فيها الحيوانات كشخصيات رئيسة، وبخاصة الكتب الموجهة للأطفال، وتحدث عن رؤيته إلى الظلم اللاحق بالحيوانات سواء عبر البشر أو بعضها ضد بعض، وشرح كيفية فهمه لدواخل تلك الحيوانت وجعلها شخصيات في كتبه، وهي تختلف من رواية إلى أخرى ومن شخصية إلى أخرى.
بينما تحدثت آن صوفي من خلال تخصصها في الشخصية والهوية الشخصية والهوية البيولوجية وتقاطع الميتافيزيقيا وفلسفة العقل عن هوية الحيوانات وقدرتها على إيجاد نظام حياة لها، وقالت إنها تؤمن بأن كل فصيل من الحيوانات له لغته وهويته الخاصة، وهذا ما جعل كولمير يتدخل كثيراً نافياً أن تكون هناك لغة خاصة بالحيوانات، وأن “هذه المقولة مقولة عاطفية لا أساس علمياً لها”. وقال إن الأمور التي تحدثت عنها الفيلسوفة من إمكان فهم الحيوانات لنا وفهمنا لها ما هي إلا تدريبات “تشبه تدريبات السيرك” ولا تعني نهائياً بأن هناك “لغة خاصة بالحيوانات” حتى ولو جعلناها تنطق في رواياتنا وقصصنا.
وخلال اليومين اللاحقين تتالت قراءات من أعمال كاتبات وكتاب وحوارات معهم ومنهم الكاتبة الألمانية من أصول تركية هيلال زوتسكين (1970) والشاعرة الألمانية مارا داريا كوجوكارو (1980) والفيلسوفة والمغنية والناشرة الهولندية إيفا مايير (1980) والقاص والروائي السلوفاكي ميشيل هورتشكي (1976) والكاتبة والفنانة التشكيلية وعالمة الأحياء الألمانية صوفيا كيميج (1988) والكاتبة الفرنسية سيبيل غريمبيرت (1967) والمسرحي السويسري أنطون ياكوود (1957) والكاتبة والفنانة التشكيلية النمسوية تيريزا برياور (1979) والشاعر والمترجم والناقد الألماني يان فاغنر (1971) وآخرين.
ومن هؤلاء المشاركين من ألقى القصائد ومقاطع من القصص والروايات، ومنهم من قرأ جزءاً من الأبحاث ومنهم من قدم تجارب شخصية أو علمية في محاور مختلفة، شملت عناوين عريضة مثل “عن العيش مع الحيوانات، ماذا يعني الجيد وماذا يعني الحر؟” و “الإهانة الرابعة للبشر” و”الحياة غير المرئية – سكان الليل” و”التحولات وتناسخ الأرواح” و”بشر وحيوانات ومشاهد طبيعية”.
قدرات وسيطرة
وعن أهمية عنوان “الحيوانات والبشر الآخرون” قال مدير المهرجان فالتر غروند أن الإنسانية تجاوزت ذروتها في التحكم بما حولها، وخلال صعودها السريع في العصر الصناعي “نسيت كيف تعيش في وئام مع نفسها ومع الطبيعة”. ويرى أنه يمكن تغيير النظرة إلى الحيوانات خصوصاً في مساعدة البشرية “عبر اكتشاف نفسها كجزء أخوي من العالم”، منوهاً إلى أن “هذا المحور جديد ويمكن المراهنة عليه”. وقال غروند إن الأبحاث العلمية الحديثة تقر أن بإمكان الحيوانات استخدام العقل واللغة والإدراك الذاتي، وكذلك “قدرتها على النظر إلى المستقبل والقدرة على المعاناة والسلوك الأخلاقي”.
ويقر غروند أن الأدب منذ بداياته “كان مأهولاً بالحيوانات، بل إن الأساطير القديمة التي كان أبطالها من الحيوانات وآلهتها أدت إلى اكتشاف فلسفة العقل الباطن لدى البشر”.
وخلال الأعوام الأخيرة يضيف غروند أنه بفضل تمثيل الحيوان كرفيق مخلص أصبحت هناك حركة أدبية مهمة “مثل الأدب الأنثروبوسيني تشمل الشعر والسرد من منظور حيواني وكوكبي”، مضيفاً أنه على هذه الخلفية قدم مهرجان أيام الأدب الأوربي للجمهور في دورته هذه كتباً من الأدب العالمي المعاصر الذي تلعب فيه الحيوانات دوراً مهماً، إضافة إلى كتب بحثية تشرح كيفية التعامل مع الحيوان وتطرح سؤالاً مهماً وهو “هل يجب على الإنسان أن يعيد النظر في علاقته معها”؟
انزياحات موضوعية
هذه العناوين العريضة والأفكار والأسئلة اُنزيح عنها في مرات كثيرة وربما يعود ذلك لأسباب تتعلق بمدى ثقافة كل المحاور، لكن هذه الاختلافات أعطت أفكاراً كثيرة للجمهور الذي حضر بكثافة وابتاع أعداداً كبيرة من الكتب.
ومن تلك الانزياحات أن المشاركين ركزوا على حيوانات بعينها ومنها القطة والكلب والسمكة، وناقشوا بعضهم بعضا في نقطة واحدة وهي “لغة الحيوانات”، متوقعين أن “كل فصيلة من الحيوانات لها لغتها الخاصة” وبالتالي قدرة هذه الحيوانات على تطوير لغتها كما فعل البشر، وإمكان تحقيق نظام حيواني مشابه للنظام البشري، ناسين أن اللغة هي مفردات وجمل وأزمنة وكتابة وشفوية، وليست عبارة عن أصوات ومشاعر وتدريب، “فلا يمكن أن نقر بوجود لغة للكلاب لمجرد أننا نتحدث معها ونطلب منها القيام بأشياء معينة فتستجيب لنا”، ورد الفعل هذا أنه “لا يمكن استنباط وجود لغة من خلالها”.
من جهة أخرى كان هناك من بين المشاركين من يطالب بعدم ذبح الحيوانات وأكلها وتعذيبها، بينما يذهب إلى التهام لحومها في وجبات الإفطار والغداء والعشاء في المطعم التابع للمهرجان.
وحاول الكتاب المتخصصون في العلوم والفلسفة إلقاء الضوء على الأهمية التي حظي بها استخدام الحيوان في الأدب، سواء في الأساطير أو كتاب “ألف ليلة وليلة”، وكذلك في الآداب الحديثة مثل رواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل والأهمية التي يعلقون عليها في عدم الاستخدام المحض من دون فهم دواخل الحيوانات ومعاناتها ولغتها ، متعلقين بأمل أن تستخدم الحيوانات بصورة أسرع عجلة التطور اللغوي والتنظيمي لتشكل عالماً أخوياً موازياً للبشر الذين سبقوهم في ذلك.
وما يحسب لمهرجان أيام الأدب الأوروبي بأنه يختار لدورة كل عام عنواناً عريضاً تتفرع منه عناوين أخرى يدعو إلى نقاشها عدداً من الكاتبات والكتاب من دول أوروبا، والذين لهم كتب أو كتابات تتعلق وتناقش ذلك المحور، وهو يدل على الإطلاع الواسع لفريق العمل الذي يبدأ العمل على عناوين الدورة الجديدة بمجرد الانتهاء من الدورة السابقة، وعادة ما تكون هذه العناوين إشكالية وراهنة وتدفع نحو النقاش والإبداع.