بدا المشهد السوري يوم الجمعة، كأنه خاضع لهندسة خفيّة راحت ترسم الخطوط شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وسط انسحاب الجيش من معظم المحافظات وحشد قواته في محيط حمص وعلى طريق حمص – دمشق.
وقد جرت عمليات معقدة من تبادل المواقع مع “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في دير الزور والحسكة وريف الرقة الجنوبي، وخرجت المعابر بين سوريا والعراق عن سيطرة الميليشيات الإيرانية، في دليل صارخ على أن الدعم المنتظر من العراق أصبح طيّ التطورات الجارفة. وانسحب الجيش والأجهزة الأمنية من محافظة السويداء، وكذلك من القنيطرة ودرعا في الجنوب حيث تصدرت المشهد مجموعة تقودها فصائل كانت قد وقّعت التسوية مع الجيش السوري عام 2018 وأصبحت جزءاً من الأمن العسكري، مثل اللواء الثامن واللجان المركزية.
لم تحدث اشتباكات خلال تبادل المواقع، بل كان الانسحاب في معظم المناطق سلساً باستثناء حالات قليلة جداً، واتجهت قوات الجيش السوري إلى محيط العاصمة.
بالتوازي مع هذه الهندسة الميدانية، كانت الدول ذات النفوذ في سوريا، وتحديدا إيران، تستعجل تنفيذ حملة واسعة لإجلاء مواطنيها وقادتها العسكريين وعدد من السوريين الذين كانوا يعملون معها وفضلوا الخروج قبل أن تصل الأمور في دمشق إلى مرحلة الحسم. وقد تولى مستشار في السفارة الإيرانية في دمشق التواصل مع عدد كبير من الشخصيات السياسية والإعلامية والاجتماعية والأكاديمية، محاولاً إقناعها بالخروج ومبدياً استعداده لتحمل تكاليف سفرها وإقامتها لمدة شهر. كذلك طلبت روسيا والصين من رعاياهما مغادرة سوريا.
ليست مصادفة أن يحدث ذلك كله عشية انعقاد اجتماع أستانا في الدوحة اليوم السبت، بينما كانت “هيئة تحرير الشام” تقف على مشارف مدينة حمص من دون أن تحاول التقدم، وهو ما جعل المشهد يبدو كأنه يتبع مخططاً هندسياً مجهزاً سلفاً.
توزيع القوى المسلحة
وبناء على هذا المخطط، أصبحت سوريا موزعة على القوى المسلحة بمختلف أشكالها: الجيش السوري يسيطر على دمشق وريفها واللاذقية وطرطوس وريف حماه الجنوبي. محافظات ديرالزور والحسكة والرقة ومدينتا عين العرب ومنبج تحت سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”. أما إدلب وحلب وحماه وجزء من حمص فأصبحت مع “هيئة تحرير الشام”. وريف حلب الشمالي والشريط بين تل أبيض ورأس العين مع “الجيش الوطني السوري” الممول من تركيا. محافظة السويداء مع فصيل “رجال الكرامة” وحلفائه الذي أعلن عن معركة الحسم، ولكن بدا أن أهدافها تقتصر على حدود المحافظة ذات الغالبية الدرزية. درعا والقنيطرة مع غرفة عمليات الجنوب التي أعلنت عن إطلاق معركة “كسر القيود”، مشيرة إلى أن هدفها التالي بعد السيطرة على الجنوب هو التوجه إلى دمشق.
وبالنسبة إلى فصائل درعا، فإن من قاد عمليات السيطرة وتنظيم الانسحاب مع الجيش السوري كانت فصائل معروفة بتلقيها دعماً من بعض الدول الخليجية قبل أن تصبح محسوبة على روسيا غداة توقيع اتفاق التسوية، بل إن “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة كان يعتبر ذراع روسيا في الجنوب السوري. وميزة فصائل الجنوب الأخرى أن ليس لها أي علاقات مع تركيا، بل كانت تعمل تحت إشراف غرفة العمليات التي أنشئت في الأردن بمشاركة عدد من أجهزة استخبارات عربية وغربية. وظلت هذه الفصائل حتى بعد التسوية والارتباط بروسيا محافظة على علاقاتها مع بعض الدول العربية ولا سيما الأردن والإمارات.
وكان أبو محمد الجولاني الذي أصبح يستخدم اسمه الحقيقي أحمد الشرع، قد سبق فصائل الجنوب في إعلان نيته التوجه إلى دمشق وإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وبين عامي 2014 و2018 كانت العلاقة بين “جبهة النصرة” آنذاك، الاسم القديم لـ”هيئة تحرير الشام”، وفصائل الجنوب مشوبة بالعداء والصراع ومحاولة كل طرف منهما إلغاء الآخر. واليوم، كل منهما يعمل بالتنسيق والتناغم مع دول تختلف أجنداتها وتتضارب مصالحها.
ويُطرح سؤال هنا عن إعلان كل منهما نيته التوجه إلى دمشق ومدى تعبيره عن إحياء العدوات القديمة وروح التنافس الكامنة.
ولا يستبعد بعض المراقبين أن يكون ثمة دور روسي بالتنسيق مع دول عربية مناهضة لتركيا وراء هندسة الوضع في الجنوب السوري تفادياً لحصول أنقرة على القسم الأكبر من الكعكة في سوريا، ولا سيما أن أردوغان بدأ يتحدث علناً عن إشرافه على إدارة الوضع الجاري في سوريا مخاطباً مسؤولين دوليين وأمميين. والحال أن الوضع في الجنوب يخضع لمراقبة إسرائيلية حثيثة، ما يعني أن تل أبيب تفضل أن تقوم روسيا بإدارة المشهد هناك وليس تركيا. علاوة على ذلك، كان الجنوب السوري محل تفاهم ثنائي بين الرئيسين الروسي بوتين والأميركي دونالد ترامب أواخر عام 2017 في هلسنكي. وكان اتفاق التسوية في العام التالي ثمرة هذا التفاهم، وهو ما يثير التساؤلات والشكوك حول وجود تنسيق روسي مع إدارة ترامب التي تستعد لتولي الحكم الشهر المقبل.
وإذا كانت حمص هي معركة الحسم كما يجري وصفها، فإن الوصول إلى دمشق سيكون الجائزة الكبرى لمن يسبق الآخر.