كالأميرة أمام مرآتها، تقف اللغة الأم، تستلقي، تتمايل وتتراقص أمام المدى الفسيح بوصفه مرآةً تعكس، وكل انعكاس ارتداد، انقلاب، أثر، ظهور وبروز ارتداديان. إنه انعكاس ينزلق خلف المرئي، كنهر ينعكس فيه كل شيء.
إن اللغة الأم هي ذاك الوجه المعبر عن الروح، الحياة. هي الضوء، وثمة علاقة صداقة عميقة تجمع ما بين المرآة والضوء، ضوء العقل المتوفِّز كنجوم تنثر ضوءها فوق بحر القلوب الهادىء. ضوء نابع ربما من عيون تفاجىء بعضها. ضوء ينبع، والنبع سرّ اللغة الأم ولغزها.
حين يظن المرء أنه قد صار قريباً من بوابة موتٍ أكثر عتمة من ليل بلا عمق، تأتي اللغة الأم لتصيب الموت بمقتل. وحين يصير الواحد من البشر كمثل شمس تترنح على حافة جبال بعيدة، تصبح اللغة الأم هي النجاح بسببٍ من فشل، وأكبر المتع المنتزعة من أكثر الجراح إيلاماً لقلوبنا.
إن علاقة اللغة الأم بالمرآة، هي علاقة لا متناهية، وربما حان الوقت لتسمية اللغة التي تظهر في عمق المرآة، في نورها القصي، باللغة الأم النور. إنها تجعلنا نرى في وسط الخير الذي هو اللغة الأم ما ليس بمرئي بالضرورة. إنها جذب المرئي من لا مرئيته العميقة. إنها المرآة العظيمة التي تتمرأى في أعماقها لغة أم ٍّعظيمة. أم ٌّ تمتاز من بين الأمهات جميعهن في كونها لا تفارقنا ولا نفارقها، وتلك هي المفارقة الكبرى!.
****
قد يبدو للبعض، أن غياب الحس النقدي هنا حيال اللغة الأم وحيال المرآة، على هذا الكوكب وفي المدى الفسيح؛ يجعلهما ربما تبدوان كمثل آلهة، عدا عن الإمعان المتعِب في السريّ والجوهريّ. بيدَ أن جميع البشر يحتاجون إلى أن يتعلّقوا بروح حية، كمَن يقضي في البحار وقتاً طويلاً مفعَماً بالمغامرة، واللغة الأم هي الروح الحية، وهي من البساطة والثراء والحنان، بحيث لا يمكن أن تكون عالماً ينطوي على نفسه. أحياناً،تصير اللغة الأم هي ذاتها المرآة بوصفها ناظرة ومنظورة.
في لحظات التشرد والنفي والاستبعاد، وفي البلاد البعيدة، تصير هذه اللغة بيتاً خشبياً بسقفٍ من قرميد، خشبيّ الأثاث، خافت الضوء، يسكنه فيلسوف حكيم. إنها لغة أمٍّ رؤوم من حيث هي لملمة البعثرة واحتضانها.
إن اللغة الأم إذ تصير مرآة،تصبح كمثل مدينة ساحرة تسبح في صورة حلم في المسافات. تصبح للناس كمثل قدَر حكيم، والحكمة تاج اللغة الأم. وأما الأفكار، فتلمع فوق جبينها المسفوع كالبرق، والمزاج الرائق معها لا يمكن منافسته في النبالة والجمال.
مَن يريد أن يرى النظرات التساؤلية وهي تُرمى كمثل تلألؤ البحيرات، فليمعن النظر في علاقة اللغة الأم مع المرآة، في وقوفها أمامها أو تمايلها أو استلقائها، أو حتى إذ تصير اللغة الأم هي ذاتها المرآة، مرآة المدى الفسيح. إنها ليست فقط مجرد حروف وكلمات ومقاطع وجمل وتراكيب ونصوص وقواعد ونحو وصرف، وهي ليست فقط مجرد ثقافة أو منظومة أخلاقية، ولا فقط مجرد إشارة للأشياء، ولا فقط مجرد خط كتابيّ أو كلمة منطوقة واضحة،و إنها ليست فقط مجرد معجم، بل هي روح وقّاد وتوْق روحيّ للغزارة الرائعة. إنها انكشاف غائر للسلام الداخلي وجرعة حب تروي الظمأ وتروي الحكايات. في الحقيقة، هناك طبيعة واحدة ولغات عدة. الطبيعة الواحدة هي اللغة الأم، تلك التي هي صورة الحقيقة الكبرى.
****
ربما يعرف المرء أكثر قيمة اللغة الأم في الفقد أو الابتعاد. هذا ما أقوله لنفسي في البلاد البعيدة. يصبح المرء المنفيّ أو اللاجىء أو المقصيّ أو المستبعَد أو المهاجر، يصبح آنئذ أكثر إدراكاً لقيمة اللغة الأم، ولا بد من إدراك وفهم هذه القيمة لكي تزداد البلاد الديموقراطية غنى باللغات الأمهات كالزنابق المنتشرة في الحقل، إذ وحدها البلاد المبتلاة بالاستبداد والديكتاتورية واصطراع المصطرعِين، تقاسي التصحّر والشحّ اللغوي الأموميّ.
وأكبر الظن أنه عندما يسفر الصبح عن لغات غريبة جديدة، تعتورها الجُمل الغامضة المتنافرة الصاخبة المطابقة أحيانا للشقاء؛ يصبح التوق إلى اللغة الأم والتأمل فيها أعظم، كالعشب ينمو من جديد إذا ما قُطع. ما أغرب ما يقع مع الإنسان من أمور حين يرحل ويرتحل!
قد يساور أحدهم أو إحداهن الخوف من أن كلامنا عن اللغة الأم والمرآة ربما يفضي إلى عزلة وإلى رؤية فظة قاسية لا تعرف جبْر الخواطر في ما يتعلق بغير اللغة الأم. لكن متعة العقل والقلب تقتضي المضي في مرج يمتد امتداداً رائقاً وشائقاً في الأمام، والتأكيد على أن كل اللغات هي أمهات بالنسبة إلى أبنائها وبناتها.
في وسط سديم عنف وحشي، يطيش فيه الصواب، يعتور نظام هذا العالم، حسناً فعلت منظمة الأونيسكو حين أعلنت للمرة الأولى في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1999 يوماً عالمياً للغة الأم، قبل أن يتم إقراره رسمياً من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوم 21 شباط. (فبراير). يوم عالميّ يحتفي بلغة ذات كينونة ليست مغلقة في كلمة نهائية، كينونة تبدأ من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، أو ذات كينونة لولبية.
في المساءات الأخيرة. في الوداع النهائي، ربما يكون أهم شيء نفعله هو إهداء مرايانا للطبيعة، فتتحد الذات بالذات لتنتج لغة هي الطبيعة، هي المرآة وهي الذات الكلية.
أعجبني

 

تعليق