AFP

“من النهر إلى البحر فلسطين حرة عربية”، أو كما يقال بالعامية الفلسطينية: “من المي للمي فلسطين عربية”. هي عبارة يطلقها كثيرون في الآونة الأخيرة خلال الاحتجاجات المنظمة ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن ما من سياق أو أهمية تاريخية خاصة لها، بل هي مستحدثة ولا سيما في الأدبيات الفلسطينية، ولها دلالات جغرافية ترتبط بخريطة ما بعد النكبة عام 1948 التي رسمت الشكل الأولي للكيان الجديد، إسرائيل، بين غرب نهر الأردن وحتى البحر المتوسط، وذلك على حساب حلم الفلسطينيين بتشكيل دولة لهم.

ويعود الباحث الإسرائيلي مردخاي كيدار، في حديث لـ”المجلة”، إلى جلسة عصبة الأمم (الأمم المتحدة لاحقا) والتي عقدت في أبريل/ نيسان عام 1920 بمدينة سان ريمو الإيطالية، وتبنت “وعد بلفور” رسميا، ليصبح وثيقة دولية تعترف بحق اليهود في إقامة دولة لهم على ضفتي نهر الأردن وحتى البحر الأبيض المتوسط، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.

ويقول كيدار إن تأسيس إمارة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية) عام 1924 قوبل باعتراض في أوساط الحركة الصهيونية في حينه، إذ قلص مساحة الدولة اليهودية التي عملت على إنشائها، واستحدثت عبارة من “النهر إلى البحر” التي باتت تعني المناطق التي تبدأ من الضفة الغربية لنهر الأردن وحتى المتوسط (الضفة الغربية وأراضي 48).

من جانبه يميل محمود يزبك المؤرخ المتخصص في تاريخ المجتمع الفلسطيني إلى الجزم بأن الحركة الصهيونية قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية بنت رؤية لإنشاء ما عرف بإسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، لكن مع اختلاف الأنهار المقصودة وفقا للتطورات السياسية والميدانية. ويقول لـ”المجلة”: “في حين اتبع البعض نصوصا توراتية أكدت أن الدولة اليهودية ستقوم من النيل إلى الفرات، اتجه آخرون للقول إن إسرائيل الكبرى تشمل ضفتي نهر الأردن حتى البحر المتوسط”.
ويواصل يزبك دعم موقفه بالقول إن الدبلوماسي المسيحي البريطاني لورنس أوليفنت (1829-1888) الذي سبق أن زار فلسطين وعاش في دالية الكرمل دعم فكرة توطين اليهود ليس في فلسطين فحسب، وإنما في الضفة الشرقية لنهر الأردن وساهم في دعم الحركة الصهيونية وقادتها على هذا الأساس.

عبارة تخص الصهيونية؟

أما المؤرخ جوني منصور فيدعم ما يقوله يزبك بالقول إن عبارة من “النهر إلى البحر” تخص الحركة الصهيونية بشكل أساسي قبل أن تُستخدم في الأروقة الفلسطينية مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. ويقول منصور إن زئيف جابوتنسكي (1880-1940) قال في مختلف مؤلفاته مطلع القرن العشرين، ومنها “الجدار الحديدي”، أن اليهود يجب أن يعيشوا في أرض إسرائيل من النهر إلى البحر مع الإبقاء على السكان العرب مستقلين ثقافيا تحت سيطرة يهودية.

فعليا وعلى الأرض ألمت النكبة بالفلسطينيين عام 1948، وأُعلن قيام إسرائيل على جزء من الأراضي الفلسطينية وأصبحت الضفة الغربية ضمن حكم الأردن، ومجددا تقلصت المساحة التي نص عليها “وعد بلفور” من وجهة نظر الحركة الصهيونية.

 

وفي أواخر مايو/أيار من عام 1964 وُقّع الميثاق القومي الفلسطيني الذي أسس لانطلاق منظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وأعلن حق الفلسطينيين باسترداد وطنهم المحتل من نهر الأردن وحتى البحر المتوسط (الضفة الغربية كانت لا تزال بيد الأردن في حينه)، وهنا دخلت هذه العبارة أدبيات الفلسطينيين على أساس التوارث التاريخي للأرض والاستمرارية للشعب، كما يقول منصور، وذلك خلافا للحركة الصهيونية التي ترى في ملكية فلسطين “حقا إلهيا” (شعب الله المختار في أرض الميعاد).

تكرر ذكر حدود الدولة الفلسطينية المنشودة في إعلان الميثاق الوطني الفلسطيني لدى انعقاد المجلس الوطني عام 1968 (بعد عام من “النكسة” التي احتلت فيها إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة)، وشدّد على تحرير الأرض، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية من النهر إلى البحر، كما كرس وحدة الأرض، وحق العودة كمكون أساسي لتلك الوحدة.

تمسك الفلسطينيون والعرب براية تحرير الأراضي الفلسطينية كاملة (من النهر إلى البحر) لثلاثة عقود رفضوا فيها الاعتراف بالدولة العبرية أو التفاوض والتصالح معها، واحتفظت الفصائل والحركات المنضوية في منظمة التحرير لنفسها بحق مقاومة الاحتلال.

تحولات عربية وفلسطينية

لكن مطلع ثمانينات القرن الماضي شهد تحولا في التعاطي العربي مع ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيما بعد إبرام “معاهدة كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل؛ اعترف العرب بالكيان العبري ضمنيا في القمة العربية التي عقدت بمدينة فاس المغربية عام 1982 على الرغم من الانتقادات التي وُجِّهت للقاهرة بسبب معاهدة السلام. بعدها بخمس سنوات اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وتوالت الضغوط الدولية على منظمة التحرير. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1988 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة التي عقدت في الجزائر وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي اعترفت عمليا بقرار تقسيم الأراضي الفلسطينية عام 1947، وإنشاء دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 تشمل الضفة الغربية والشطر الشرقي من القدس وقطاع غزة، هكذا نشأ حل الدولتين (فلسطينيا).

 

في بداية تسعينات القرن الماضي توجهت منظمة التحرير الفلسطينية لمسار الحل السياسي مع إسرائيل وشرعت في مفاوضات واتصالات سياسية برعاية أميركية وأوروبية بدأت بـ”مؤتمر مدريد” وبلغت ذروتها بتوقيع “اتفاق أوسلو” في سبتمبر/أيلول 1993، والذي أعاد قيادة المنظمة إلى إدارة الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل تدريجي وأحال لها الصلاحيات المدنية في نحو أربعين في المئة من مساحة الضفة الغربية، بينما أبقى على ستين في المئة منها ضمن إدارة أمنية إسرائيلية (المناطق المُصنّفة ج).
ونص “اتفاق أوسلو”، على تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني، ودعت منظمة التحرير لعقد المجلس الوطني عام 1996، إذ قرر المجلس تغيير البنود التي تتعارض مع رسائل الاعتراف المتبادل بشكل ينسجم مع وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 والتي نصت على حل الدولتين وإنهاء الصراع بالطرق السلمية.
لهذا الغرض كلفت لجنة لإعادة صياغة الميثاق الوطني لتقديمها لاحقا، وانتهى الأمر بجلسة جديدة عقدها المجلس الوطني في قطاع غزة شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1996 بحضور الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وألغت معظم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني المتعلقة بالكفاح المسلح وعدم الاعتراف بوجود إسرائيل (تصويت المجلس الوطني في تلك الجلسة لا يزال يثير الجدل حتى أيامنا في ظل تساؤلات عن نصاب الجلسة).
وفي حديثه لـ”المجلة” يقول مردخاي كيدار، إن قرار المجلس الوطني في حينه كان مبهما ولم يغير الوقائع على الأرض، إذ إن الفلسطينيين لم يعترفوا، في نظره، بحق إسرائيل كدولة لليهود، وبقي شعارهم الأساسي هو إقامة الدولة الفلسطينية من نهر الأردن وحتى المتوسط. ويصف كيدار توجه الفلسطينيين للسلام بـ”التسويف السياسي”.

كان تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، عمليا، هو الخطوة الأخيرة من جانب منظمة التحرير التي أدّت إلى تحويل مسار إقامة دولة مستقلة في حدود فلسطين الانتدابية (من النهر إلى البحر) إلى شعار تردده حناجر المتظاهرين أو المشاركين في إحياء المناسبات الوطنية، وهناك من يقول إن الوقائع التي حددتها إسرائيل على الأرض بخاصة بعد نكسة عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والشطر الشرقي من القدس، هي التي أسست للتحول في سياسة المنظمة. غير أن هذا التحول لم يغير مواقف الفصائل الفلسطينية غير المنضوية في إطار المنظمة، مثل “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، و”الجبهة الشعبية- القيادة العامة”، والتي لا تعترف حتى الآن بوجود إسرائيل، وتؤمن بالمقاومة المسلحة سبيلا لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة على حدود فلسطين الانتدابية.
تزايد استخدام شعار: “فلسطين عربية من النهر إلى البحر” خلال الأعوام الأخيرة وتجاوز حدود الأراضي الفلسطينية ليصل إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية، خصوصا مع انتشار حركة المقاطعة لإسرائيل دوليا. وترى أوساط إسرائيلية ودولية أن استخدام هذا الشعار يعد دعوة لتدمير إسرائيل، وشكلا من أشكال معاداة السامية، كما أعلنت “منظمة مكافحة التشهير” أنه خلال الحرب على قطاع غزة، تزايد استخدام هذا الشعار وتزايد معه استهداف مستخدميه في الولايات المتحدة وأوروبا.

 

وفي المقابل يفسر معظم مستخدمي عبارة “من النهر إلى البحر” ذلك بأنه دعوة لتحقيق العدالة والحقوق المتساوية لكل سكان فلسطين الانتدابية، ورد على السياسة الاستيطانية، كما تعزز حركة المقاطعة في تعاطيها مع هذه العبارة مفهوم الخلاص من الممارسات الاستعمارية، من دون التطرق إلى شكل الحكم أو تقسيم الأراضي الفلسطينية.

دعوة لتدمير إسرائيل؟

على المستوى الإسرائيلي العام وبخاصة في الأروقة السياسية تُعد عبارة من “النهر إلى البحر” دعوة لتدمير إسرائيل ونفيا لوجودها، وقد عبر عن ذلك مسؤولون إسرائيليون في أكثر من مناسبة، ومنهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي قال في مقابلة خلال الحرب مع شبكة “فوكس نيوز”، في سياق الرد على رفع الشعار واستخدامه ضمن النشاطات المناهضة للحرب: “عبارة من النهر إلى البحر تعني أن لا وجود لإسرائيل”.
أما تاريخيا فقد سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى توسيع نطاق حدود إسرائيل وفقا للمبدأ نفسه، بل اعتمدت أحيانا الرواية الدينية لتوسيع نفوذها وفق مبدأ دولة يهودية تبنى تدريجيا في “أرض إسرائيل الكاملة” التي جاءت في نصوص توراتية، أي على حدود الانتداب البريطاني قبل إنشاء الأردن إلى جانب الأراضي العربية التي استولت عليها إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967، وقبل إبرام معاهدة السلام مع مصر والانسحاب من شبه جزيرة سيناء.
بعد النكبة عام 1948 كانت آيديولوجيا “أرض إسرائيل الكبرى” قاسما مشتركا للأحزاب الإسرائيلية المختلفة، لكنها تعززت على مستوى الممارسة بعد “النكسة” ووقوع القدس الشرقية تحت السيطرة الإسرائيلية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي حينه تزايدت الأصوات التي تنادي بإنشاء المستوطنات في الضفة وغزة والقدس والجولان وسيناء وأقيمت حركات يمينية (بينها حركة غوش إمونيم القومية الدينية). لكن الحكومات الإسرائيلية بين الأعوام 1967-1980 لم تسارع إلى زرع عدد كبير من المستوطنات الإسرائيلية في تلك المناطق، وتبنت ضمنيا خططا عدة لـ”توزيع السكان” في المواقع الحيوية لأمن إسرائيل والتي تضمن السيطرة على أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من الفلسطينيين.
إحدى هذه الخطط كانت تلك التي طرحها يغال ألون (أحد قادة البلماح– الهاغاناه سابقا، والجيش الإسرائيلي، وكان نائبا عن حزب العمل)، وتنص على ضم أجزاء من الأراضي المحتلة عام 1967 وبخاصة القدس وغور الأردن و”غوش عتسيون” (جنوب الضفة الغربية) من خلال تجديد الاستيطان.

 

بعد اعتلاء حزب الليكود سدة الحكم في إسرائيل عام 1977 شهدت حركة الاستيطان توسعا واضحا كان مبنيا على آيديولوجيا يمينية تميل إلى تحقيق تواصل جغرافي وفق رؤية “أرض إسرائيل الكبرى”، وبالتالي تقويض احتمال إقامة دولة فلسطينية (هناك أروقة إسرائيلية تؤمن بأن بناء الكتل الاستيطانية من جانب حكومة الليكود كان للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي خلقت أزمة سكن لدى الشرائح الاجتماعية المحسوبة على جمهور الليكود).

آيديولوجيا الاستيطان

تبدلت الظروف السياسية ووقعت معاهدة السلام مع مصر ولاحقا مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها انسحبت إسرائيل من مستوطنات قطاع غزة وسط معارضة شديدة من جانب التيارات المحسوبة على الصهيونية الدينية واليمين المتشدد، لكن بناء المستوطنات في الضفة الغربية لم يتراجع حتى في ظل الحديث عن حل الدولتين، بل إن فكرة “أرض إسرائيل الكاملة” لا تزال تراود أوساطا يمينية حتى اليوم.

 

ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تتعالى أصوات في أحزاب الصهيونية الدينية وبعض أوساط اليمين الليبرالي لإعادة بناء المستوطنات في أراضي القطاع والسيطرة الأمنية عليه؛ فالنائب في الليكود نيسيم فاتورتي قال في إحدى المقابلات الصحافية إنه يجب إعادة الاستيطان في قطاع غزة ونقل الفلسطينيين النازحين إلى الدنمارك في حال لم ترغب مصر في استقبالهم.
وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، قال إنه لا يخشى تجديد الاستيطان في “غوش قطيف” (مستوطنات سابقة في قطاع غزة) واحتلال غزة في سبيل ضمان الأمن للإسرائيليين.
وعلى الأرض أخذ مفهوما “أرض إسرائيل الكاملة”، و”فلسطين حرة من النهر إلى البحر” الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مصير مجهول، ويزيد الجمود السياسي الحاصل بين الجانبين الأصوات التي تؤيد حل الدولة الواحدة، أو تخشاه.

AFP

AFP
امرأة فلسطينية تحمل خريطة فلسطين الانتداب البريطاني خلال وقفة احتجاجية بغزة في 27 فبراير/ شباط 2020

“من النهر إلى البحر فلسطين حرة عربية”، أو كما يقال بالعامية الفلسطينية: “من المي للمي فلسطين عربية”. هي عبارة يطلقها كثيرون في الآونة الأخيرة خلال الاحتجاجات المنظمة ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن ما من سياق أو أهمية تاريخية خاصة لها، بل هي مستحدثة ولا سيما في الأدبيات الفلسطينية، ولها دلالات جغرافية ترتبط بخريطة ما بعد النكبة عام 1948 التي رسمت الشكل الأولي للكيان الجديد، إسرائيل، بين غرب نهر الأردن وحتى البحر المتوسط، وذلك على حساب حلم الفلسطينيين بتشكيل دولة لهم.

ويعود الباحث الإسرائيلي مردخاي كيدار، في حديث لـ”المجلة”، إلى جلسة عصبة الأمم (الأمم المتحدة لاحقا) والتي عقدت في أبريل/ نيسان عام 1920 بمدينة سان ريمو الإيطالية، وتبنت “وعد بلفور” رسميا، ليصبح وثيقة دولية تعترف بحق اليهود في إقامة دولة لهم على ضفتي نهر الأردن وحتى البحر الأبيض المتوسط، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.

ويقول كيدار إن تأسيس إمارة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية) عام 1924 قوبل باعتراض في أوساط الحركة الصهيونية في حينه، إذ قلص مساحة الدولة اليهودية التي عملت على إنشائها، واستحدثت عبارة من “النهر إلى البحر” التي باتت تعني المناطق التي تبدأ من الضفة الغربية لنهر الأردن وحتى المتوسط (الضفة الغربية وأراضي 48).

 

أُعلن قيام إسرائيل على جزء من الأراضي الفلسطينية، وأصبحت الضفة الغربية ضمن حكم الأردن، وتقلصت المساحة التي نص عليها “وعد بلفور” من وجهة نظر الحركة الصهيونية

 

 

من جانبه يميل محمود يزبك المؤرخ المتخصص في تاريخ المجتمع الفلسطيني إلى الجزم بأن الحركة الصهيونية قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية بنت رؤية لإنشاء ما عرف بإسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، لكن مع اختلاف الأنهار المقصودة وفقا للتطورات السياسية والميدانية. ويقول لـ”المجلة”: “في حين اتبع البعض نصوصا توراتية أكدت أن الدولة اليهودية ستقوم من النيل إلى الفرات، اتجه آخرون للقول إن إسرائيل الكبرى تشمل ضفتي نهر الأردن حتى البحر المتوسط”.
ويواصل يزبك دعم موقفه بالقول إن الدبلوماسي المسيحي البريطاني لورنس أوليفنت (1829-1888) الذي سبق أن زار فلسطين وعاش في دالية الكرمل دعم فكرة توطين اليهود ليس في فلسطين فحسب، وإنما في الضفة الشرقية لنهر الأردن وساهم في دعم الحركة الصهيونية وقادتها على هذا الأساس.

عبارة تخص الصهيونية؟

أما المؤرخ جوني منصور فيدعم ما يقوله يزبك بالقول إن عبارة من “النهر إلى البحر” تخص الحركة الصهيونية بشكل أساسي قبل أن تُستخدم في الأروقة الفلسطينية مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. ويقول منصور إن زئيف جابوتنسكي (1880-1940) قال في مختلف مؤلفاته مطلع القرن العشرين، ومنها “الجدار الحديدي”، أن اليهود يجب أن يعيشوا في أرض إسرائيل من النهر إلى البحر مع الإبقاء على السكان العرب مستقلين ثقافيا تحت سيطرة يهودية.

فعليا وعلى الأرض ألمت النكبة بالفلسطينيين عام 1948، وأُعلن قيام إسرائيل على جزء من الأراضي الفلسطينية وأصبحت الضفة الغربية ضمن حكم الأردن، ومجددا تقلصت المساحة التي نص عليها “وعد بلفور” من وجهة نظر الحركة الصهيونية.

 

فلسطينيون يحملون أمتعتهم بعد النكبة في 15 سبتمبر/أيلول 1948 

وفي أواخر مايو/أيار من عام 1964 وُقّع الميثاق القومي الفلسطيني الذي أسس لانطلاق منظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وأعلن حق الفلسطينيين باسترداد وطنهم المحتل من نهر الأردن وحتى البحر المتوسط (الضفة الغربية كانت لا تزال بيد الأردن في حينه)، وهنا دخلت هذه العبارة أدبيات الفلسطينيين على أساس التوارث التاريخي للأرض والاستمرارية للشعب، كما يقول منصور، وذلك خلافا للحركة الصهيونية التي ترى في ملكية فلسطين “حقا إلهيا” (شعب الله المختار في أرض الميعاد).

 

تمسك الفلسطينيون والعرب براية تحرير الأراضي الفلسطينية كاملة (من النهر إلى البحر) لثلاثة عقود رفضوا فيها الاعتراف بالدولة العبرية أو التفاوض والتصالح معها

 

 

تكرر ذكر حدود الدولة الفلسطينية المنشودة في إعلان الميثاق الوطني الفلسطيني لدى انعقاد المجلس الوطني عام 1968 (بعد عام من “النكسة” التي احتلت فيها إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة)، وشدّد على تحرير الأرض، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية من النهر إلى البحر، كما كرس وحدة الأرض، وحق العودة كمكون أساسي لتلك الوحدة.

تمسك الفلسطينيون والعرب براية تحرير الأراضي الفلسطينية كاملة (من النهر إلى البحر) لثلاثة عقود رفضوا فيها الاعتراف بالدولة العبرية أو التفاوض والتصالح معها، واحتفظت الفصائل والحركات المنضوية في منظمة التحرير لنفسها بحق مقاومة الاحتلال.

تحولات عربية وفلسطينية

لكن مطلع ثمانينات القرن الماضي شهد تحولا في التعاطي العربي مع ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيما بعد إبرام “معاهدة كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل؛ اعترف العرب بالكيان العبري ضمنيا في القمة العربية التي عقدت بمدينة فاس المغربية عام 1982 على الرغم من الانتقادات التي وُجِّهت للقاهرة بسبب معاهدة السلام. بعدها بخمس سنوات اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وتوالت الضغوط الدولية على منظمة التحرير. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1988 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة التي عقدت في الجزائر وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي اعترفت عمليا بقرار تقسيم الأراضي الفلسطينية عام 1947، وإنشاء دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 تشمل الضفة الغربية والشطر الشرقي من القدس وقطاع غزة، هكذا نشأ حل الدولتين (فلسطينيا).

 

AFPAFP

بيل كلينتون يقف بين ياسر عرفات (على اليمين) واسحق رابين بعد التوقيع على “اتفاق أسلو” في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 

في بداية تسعينات القرن الماضي توجهت منظمة التحرير الفلسطينية لمسار الحل السياسي مع إسرائيل وشرعت في مفاوضات واتصالات سياسية برعاية أميركية وأوروبية بدأت بـ”مؤتمر مدريد” وبلغت ذروتها بتوقيع “اتفاق أوسلو” في سبتمبر/أيلول 1993، والذي أعاد قيادة المنظمة إلى إدارة الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل تدريجي وأحال لها الصلاحيات المدنية في نحو أربعين في المئة من مساحة الضفة الغربية، بينما أبقى على ستين في المئة منها ضمن إدارة أمنية إسرائيلية (المناطق المُصنّفة ج).
ونص “اتفاق أوسلو”، على تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني، ودعت منظمة التحرير لعقد المجلس الوطني عام 1996، إذ قرر المجلس تغيير البنود التي تتعارض مع رسائل الاعتراف المتبادل بشكل ينسجم مع وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 والتي نصت على حل الدولتين وإنهاء الصراع بالطرق السلمية.
لهذا الغرض كلفت لجنة لإعادة صياغة الميثاق الوطني لتقديمها لاحقا، وانتهى الأمر بجلسة جديدة عقدها المجلس الوطني في قطاع غزة شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1996 بحضور الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وألغت معظم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني المتعلقة بالكفاح المسلح وعدم الاعتراف بوجود إسرائيل (تصويت المجلس الوطني في تلك الجلسة لا يزال يثير الجدل حتى أيامنا في ظل تساؤلات عن نصاب الجلسة).
وفي حديثه لـ”المجلة” يقول مردخاي كيدار، إن قرار المجلس الوطني في حينه كان مبهما ولم يغير الوقائع على الأرض، إذ إن الفلسطينيين لم يعترفوا، في نظره، بحق إسرائيل كدولة لليهود، وبقي شعارهم الأساسي هو إقامة الدولة الفلسطينية من نهر الأردن وحتى المتوسط. ويصف كيدار توجه الفلسطينيين للسلام بـ”التسويف السياسي”.

 

تزايد استخدام شعار “فلسطين عربية من النهر إلى البحر” خلال الأعوام الأخيرة وتجاوز حدود الأراضي الفلسطينية ليصل إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية، خصوصا مع انتشار حركة المقاطعة لإسرائيل

 

 

كان تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، عمليا، هو الخطوة الأخيرة من جانب منظمة التحرير التي أدّت إلى تحويل مسار إقامة دولة مستقلة في حدود فلسطين الانتدابية (من النهر إلى البحر) إلى شعار تردده حناجر المتظاهرين أو المشاركين في إحياء المناسبات الوطنية، وهناك من يقول إن الوقائع التي حددتها إسرائيل على الأرض بخاصة بعد نكسة عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والشطر الشرقي من القدس، هي التي أسست للتحول في سياسة المنظمة. غير أن هذا التحول لم يغير مواقف الفصائل الفلسطينية غير المنضوية في إطار المنظمة، مثل “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، و”الجبهة الشعبية- القيادة العامة”، والتي لا تعترف حتى الآن بوجود إسرائيل، وتؤمن بالمقاومة المسلحة سبيلا لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة على حدود فلسطين الانتدابية.
تزايد استخدام شعار: “فلسطين عربية من النهر إلى البحر” خلال الأعوام الأخيرة وتجاوز حدود الأراضي الفلسطينية ليصل إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية، خصوصا مع انتشار حركة المقاطعة لإسرائيل دوليا. وترى أوساط إسرائيلية ودولية أن استخدام هذا الشعار يعد دعوة لتدمير إسرائيل، وشكلا من أشكال معاداة السامية، كما أعلنت “منظمة مكافحة التشهير” أنه خلال الحرب على قطاع غزة، تزايد استخدام هذا الشعار وتزايد معه استهداف مستخدميه في الولايات المتحدة وأوروبا.

 

AFPAFP

خلال تظاهرة دعما للفلسطينيين في حي بروكلين بنيويورك في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 

وفي المقابل يفسر معظم مستخدمي عبارة “من النهر إلى البحر” ذلك بأنه دعوة لتحقيق العدالة والحقوق المتساوية لكل سكان فلسطين الانتدابية، ورد على السياسة الاستيطانية، كما تعزز حركة المقاطعة في تعاطيها مع هذه العبارة مفهوم الخلاص من الممارسات الاستعمارية، من دون التطرق إلى شكل الحكم أو تقسيم الأراضي الفلسطينية.

دعوة لتدمير إسرائيل؟

على المستوى الإسرائيلي العام وبخاصة في الأروقة السياسية تُعد عبارة من “النهر إلى البحر” دعوة لتدمير إسرائيل ونفيا لوجودها، وقد عبر عن ذلك مسؤولون إسرائيليون في أكثر من مناسبة، ومنهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي قال في مقابلة خلال الحرب مع شبكة “فوكس نيوز”، في سياق الرد على رفع الشعار واستخدامه ضمن النشاطات المناهضة للحرب: “عبارة من النهر إلى البحر تعني أن لا وجود لإسرائيل”.
أما تاريخيا فقد سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى توسيع نطاق حدود إسرائيل وفقا للمبدأ نفسه، بل اعتمدت أحيانا الرواية الدينية لتوسيع نفوذها وفق مبدأ دولة يهودية تبنى تدريجيا في “أرض إسرائيل الكاملة” التي جاءت في نصوص توراتية، أي على حدود الانتداب البريطاني قبل إنشاء الأردن إلى جانب الأراضي العربية التي استولت عليها إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967، وقبل إبرام معاهدة السلام مع مصر والانسحاب من شبه جزيرة سيناء.
بعد النكبة عام 1948 كانت آيديولوجيا “أرض إسرائيل الكبرى” قاسما مشتركا للأحزاب الإسرائيلية المختلفة، لكنها تعززت على مستوى الممارسة بعد “النكسة” ووقوع القدس الشرقية تحت السيطرة الإسرائيلية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي حينه تزايدت الأصوات التي تنادي بإنشاء المستوطنات في الضفة وغزة والقدس والجولان وسيناء وأقيمت حركات يمينية (بينها حركة غوش إمونيم القومية الدينية). لكن الحكومات الإسرائيلية بين الأعوام 1967-1980 لم تسارع إلى زرع عدد كبير من المستوطنات الإسرائيلية في تلك المناطق، وتبنت ضمنيا خططا عدة لـ”توزيع السكان” في المواقع الحيوية لأمن إسرائيل والتي تضمن السيطرة على أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من الفلسطينيين.
إحدى هذه الخطط كانت تلك التي طرحها يغال ألون (أحد قادة البلماح– الهاغاناه سابقا، والجيش الإسرائيلي، وكان نائبا عن حزب العمل)، وتنص على ضم أجزاء من الأراضي المحتلة عام 1967 وبخاصة القدس وغور الأردن و”غوش عتسيون” (جنوب الضفة الغربية) من خلال تجديد الاستيطان.

 

مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تتعالى أصوات في أحزاب الصهيونية الدينية وبعض أوساط اليمين الليبرالي لإعادة بناء المستوطنات في أراضي القطاع والسيطرة الأمنية عليه

 

 

بعد اعتلاء حزب الليكود سدة الحكم في إسرائيل عام 1977 شهدت حركة الاستيطان توسعا واضحا كان مبنيا على آيديولوجيا يمينية تميل إلى تحقيق تواصل جغرافي وفق رؤية “أرض إسرائيل الكبرى”، وبالتالي تقويض احتمال إقامة دولة فلسطينية (هناك أروقة إسرائيلية تؤمن بأن بناء الكتل الاستيطانية من جانب حكومة الليكود كان للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي خلقت أزمة سكن لدى الشرائح الاجتماعية المحسوبة على جمهور الليكود).

آيديولوجيا الاستيطان

تبدلت الظروف السياسية ووقعت معاهدة السلام مع مصر ولاحقا مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها انسحبت إسرائيل من مستوطنات قطاع غزة وسط معارضة شديدة من جانب التيارات المحسوبة على الصهيونية الدينية واليمين المتشدد، لكن بناء المستوطنات في الضفة الغربية لم يتراجع حتى في ظل الحديث عن حل الدولتين، بل إن فكرة “أرض إسرائيل الكاملة” لا تزال تراود أوساطا يمينية حتى اليوم.

 

AFPAFP

أعمال شغب بين مستوطنين وفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس في يونيو/ حزيران 2021 

ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تتعالى أصوات في أحزاب الصهيونية الدينية وبعض أوساط اليمين الليبرالي لإعادة بناء المستوطنات في أراضي القطاع والسيطرة الأمنية عليه؛ فالنائب في الليكود نيسيم فاتورتي قال في إحدى المقابلات الصحافية إنه يجب إعادة الاستيطان في قطاع غزة ونقل الفلسطينيين النازحين إلى الدنمارك في حال لم ترغب مصر في استقبالهم.
وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، قال إنه لا يخشى تجديد الاستيطان في “غوش قطيف” (مستوطنات سابقة في قطاع غزة) واحتلال غزة في سبيل ضمان الأمن للإسرائيليين.
وعلى الأرض أخذ مفهوما “أرض إسرائيل الكاملة”، و”فلسطين حرة من النهر إلى البحر” الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مصير مجهول، ويزيد الجمود السياسي الحاصل بين الجانبين الأصوات التي تؤيد حل الدولة الواحدة، أو تخشاه.

font change