عارضت منظمات المجتمع المدني السوداني تشييد سدود جديدة في شمال السودان لتهديدها المواقع الأثرية القديمة (اندبندنت عربية- حسن حامد)

مع استمرار الحرب التي اندلعت منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، يتبادل الطرفان الاتهامات في ما يتعلق بتدمير البنى التحتية، فقد اتهم الجيش السوداني السبت الماضي قوات “الدعم السريع” بتدمير جسر سد جبل أولياء الواقع على بعد 44 كيلومتراً جنوب العاصمة الخرطوم ، ويقع الجسر على النيل  الأبيض الذي يلتقي بالنيل الأزرق في منطقة المقرن التي تربط بين الخرطوم وأم درمان، قبل أن يتحول إلى نهر النيل ويصعد شمالاً نحو مصر.

لم تخفف تصريحات وزارة الري السودانية بأن “خزان جبل أولياء لم يتضرر أو يتأذى بسبب تدمير جسره المتحرك الذي يتم التحكم فيه آلياً”، من قلق المهتمين المتخوفين من أن تؤدي الإصابات في جسر السد إلى انهياره، مما يتسبب في فيضانات عارمة، يزداد خطرها مع هطول الأمطار.

وتشهد منطقة جبل أولياء منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، حالة من انعدام الأمن والاستقرار نتيجة للاشتباكات بين طرفي النزاع، وتصاعد ذلك قبل أيام قليلة من تفجير جسر السد الذي يعدالسد الماءي  الوحيد في العاصمة الخرطوم، ويعمل على ضبط منسوب المياه أثناء الحبس والتفريغ في السد العالي جنوب مصر. وبينما أفادت “لجان المقاومة” في المنطقة بأن قوات “الدعم السريع” مارست عمليات سلب ونهب ممتلكات المواطنين واعتقلت عشرات المدنيين، واستخدمتهم دروعاً بشرية لتفادي هجمات الجيش، وهو أمر تنفيه قوات “الدعم”، إضافة إلى دوي الانفجارات والتحليق المكثف للطيران الحربي التابع للجيش في المنطقة، كل ذلك أدى إلى حركة نزوح واسعة جنوباً إلى القرى الواقعة على شريط النيل الأبيض.

وفي ذلك أوضحت وزارة الري أنه “تبعاً لهذه الأحداث، رفع الجزء المتحرك من الجسر الحديدي الذي يستخدم لتمكين البواخر النيلية من العبور، وذلك بغرض منع مرور قوات الدعم السريع التي حاولت السيطرة على هذا الجسر”.

 ومن قبل، حاولت قوات “الدعم السريع” السيطرة على جسر “شمبات” الذي يعد أحد خطوط الإمداد الرئيسة لها، ولكن نتيجة الاشتباكات تعرض لتدمير جزئي السبت، 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، مما أفقد القوات ترابطها بمدن العاصمة الثلاث (الخرطوم، وبحري، وأمدرمان)، وأدى ذلك إلى اندلاع اشتباكات في الجسر ومحيطه نتيجة محاولتها السيطرة على جسر سد جبل أولياء، بغرض فتح خط إمداد جديد يربطها بأمدرمان التي ترتبط كذلك بولايات غرب وشمال السودان.

استراتيجية الحرب

دخلت السدود كاستراتيجية متعددة الجوانب بهدف الخصب والنماء، حيث كانت تنشأ من الحجارة لحجز الطمي والاستفادة منه في الزراعة، كما استخدمت في الحروب المختلفة منذ عهد ما قبل الميلاد، مثل حضارة وادي النيل وبلاد الرافدين، كما جاء ذكر بعضها في النصوص الدينية القديمة.

في كتاب “السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية”، قال عبدالله حسين “إن فكرة التخزين قديمة في مصر وترجع إلى عهد الفراعنة، فقد عنوا بتنظيم التخزين، واختاروا له المنخفض الذي تشغله الآن مديرية الفيوم. وقد أطلق الإغريق على هذا الخزان اسم بحيرة موريس”.

وذكر أيضاً “قام قدماء المصريين كذلك بإنشاء خزانات في وديان السيول في الصحراء الشرقية وفي شبه جزيرة سيناء لتخزين مياه الأمطار والسيول، والانتفاع بها في سقي بعثات التعدين وعمال المحاجر. وكان الرومانيون يخزنون ماء الأمطار بآبار في الصحراء الغربية”.

 أما في العصر الحديث، فمنها ما اتخذ ضمن استراتيجية الحرب مثلما حدث خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت في الفترة من عام 1936 إلى 1939، حين حاول الجنرال الإسباني فرانثيسكو فرانكو، تدمير سد أوردنتي. وما حدث إبان الحرب العالمية الثانية، حين فجر السوفيات سد دنيبر في زاباروجيا عام 1941، الذي كان يغذي محطة دنيبروستروي للطاقة، لمنع القوات “النازية” من الاستيلاء عليه، وبعد أن استولى عليه الألمان وأعادوا بناءه جزئياً، فجرته بعد عامين القوات النازية مرة أخرى ليعيد السوفيات بناءه بعد الحرب، وفي عام 1943، فجر سلاح الجو الملكي البريطاني سدي موهني وإديرسي في ألمانيا اللذين كانا يوفران الطاقة الكهرومائية والمياه لآلة الحرب “النازية”.

وعلى نهر دنيبر أيضاً دمر سد نوفا كاخوفكا الضخم في أوكرانيا في يونيو (حزيران) الماضي في إطار التصعيد في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، جراء الضربات الروسية ضد البنية التحتية الأوكرانية، التي طاولت عديداً من السدود.

تهديد السدود

عارضت منظمات المجتمع المدني السوداني وبعض الناشطين في مجال البيئة والآثار، عزم حكومة “الإنقاذ” السابقة تشييد سدود جديدة في شمال السودان لتهديدها المواقع الأثرية القديمة التي تعود لممالك كوش ومروي وبلاد النوبة، إذ تهدد الأهرامات والمعابد والمدافن والكنوز الأثرية، لكن الحكومة نفذت بعض السدود لتوليد الطاقة الكهربائية، وأدى ذلك إلى غمر بعض الأهرامات في مواسم الفيضانات، وتسرب المياه الجوفية إلى المدافن الملكية والكنوز الأثرية من مياه السدود.

بدأ السودان بناء السدود في عشرينيات القرن الماضي مستفيداً من تنوع مصادره المائية، وفي مقدمتها نهر النيل برافديه الأزرق والأبيض، والأنهار الموسمية مثل ستيت وعطبرة، وتوجد في السودان ستة سدود رئيسة، فإضافة إلى سد جبل أولياء، هناك سد الروصيرص، ومروي، وعطبرة وستيت، وخشم القربة، وسنار. إلى جانب مشاريع لسدود جديدة وجدت معارضة شعبية واسعة لتأثيرها في سكان المناطق المقامة فيها، مثل كجبار، والشريك، ودال، ودقش، والسبلوقة. ويعود خطرها حتى في حالات السلم إلى أن ارتفاع المياه في معظم السدود والخزانات، ينذر بحدوث فيضانات تجتاح مناطق واسعة من الأراضي المنبسطة التي تعد مناطق جذب رئيسة للسكن والنشاط الزراعي على ضفاف الأنهار، مما يوقع كثيراً من الخسائر في الأرواح والممتلكات التي تخلفها وتتأثر بها عدد من الولايات.

تضارب التصريحات

قال العميد بحري معاش علي عبيد “حدث التفجير الجزئي لجسر شمبات ثم جسر سد جبل أولياء، في الوقت الذي كثف فيه الجيش هجماته على مواقع عدة إثر خوضه عمليات عسكرية في أمدرمان وبحري والمدرعات وفرض سيطرته على المنطقة”.

وأوضح العميد بحري معاش “تكمن أهمية جسر السد في أنه يربط الخرطوم وأمدرمان، ويمكن استخدامه ممراً استراتيجياً لربط قوات “الدعم السريع” بين جنوب الخرطوم والجنوب الغربي لأمدرمان، وفتح خطوط إمداد قادمة لها من غرب السودان، كما تربط أمدرمان جسور نيلية أخرى هي جسر الفتيحاب على النيل الأبيض أيضاً مع الخرطوم، وجسرا الحلفايا وشمبات على النيل الأزرق مع بحري”.

وأشار من ناحية أخرى إلى أن “هناك تضارباً في تصريحات الطرفين وادعائهما السيطرة على الجسور والسدود خصوصاً مع توقيت تدمير جسر سد جبل أولياء، لأن التدمير يضر طرفي النزاع، بإحباط خطط الجيش للهجوم، وحرمان الدعم السريع من تزويده بالإمدادات”.

يذكر أن الجيش اتهم “الدعم السريع” في بيان رسمي باستهداف جسر شمبات ثم جسر سد جبل أولياء، ووصفه بـ”المشروع التدميري لمقدرات البلاد وبنيتها التحتية نتيجة التقدم الذي بدأت تحرزه قواتنا في الميدان، بخاصة في محور أمدرمان”. كما دانته وزارة الخارجية السودانية.

في المقابل، أصدرت قوات “الدعم السريع” بياناً اتهمت فيه الجيش بتدمير جسر شمبات وجسر سد جبل أولياء، وتوعد الناطق الرسمي باسم قوات “الدعم السريع” المقدم الفاتح قرشي قائلاً “لن يؤخرنا تدمير جسر لأننا سنفتح ألف جسر، وسيكون ردنا قاسياً”.

ضربات مدفعية

من جانبه أوضح أستاذ الجغرافيا الطبيعية عاصم عباس “يعد سد جبل أولياء من بين أقدم السدود السودانية، وهو سد حجري شيد على النيل الأبيض عام 1937، وتقدر طاقته التخزينية بحوالى 3.5 مليار متر مكعب وطاقته الكهربائية 30 ميغاواط”. وأضاف “لم يسبقه في التاريخ الحديث سوى سد سنار الذي يعد أقدم سد مائي في السودان، وبدأ بناؤه عام 1922 واكتمل عام 1925، عندما كان السودان تحت الحكم الإنجليزي. وأُنشئ بغرض ري أراضي مشروع الجزيرة ذي الثقل الاقتصادي، الذي كان يصدر القطن إلى مصانع النسيج في لانكشير ببريطانيا، وتوليد الكهرباء في الخرطوم، وتبلغ طاقته 15 ميغاواط”.

وتوقع أستاذ الجغرافيا الطبيعية أنها “إذا تحولت موازين الحرب، فسيتواصل تفجير السدود ومحيطها ولن يتم بالطريقة السابقة التي بدت عشوائية ومفاجئة، وإنما بطريقة أكثر تخطيطاً بأن تفجر من الداخل بضربات مدفعية، وفي هذه الحالة سوف تتدفق المياه مباشرة وتتسبب في أضرار كبيرة”.

عنف الموارد

ظل تفجير السدود على مر الزمن سلاحاً لتحقيق ميزة إضافية في الحرب بالنسبة إلى الميليشيات والقوات شبه العسكرية أو القوات الغازية، وفي الوقت ذاته نقطة ضعف بالنسبة إلى الجيوش والقوات النظامية التي تتحمل عبء بنائه، وفي حالات أخرى قد تقوم الجيوش الوطنية بهذه العملية لقطع الطريق أمام القوات الأخرى.

وذكر أستاذ القانون الدولي سعد عبدالكريم “نسبة للدور الحيوي الذي تلعبه المياه والسدود المنشأة عليها في الاقتصاد، فإن هناك تاريخاً طويلاً من العنف المرتبط بالموارد المائية واستخدامها كسلاح، لذلك تدخل الهجمات على السدود في تصنيف جرائم الحرب، كما جاء في المادة 56 من البروتوكول الأول والمادة 15 من البروتوكول الثاني من بروتوكولات اتفاقيات جنيف لعام 1977”.

وأوضح عبدالكريم “تحظر القوانين الدولية بصورة صريحة الهجمات على البنية التحتية التي تحتوي على مصادر قوى، بما في ذلك السدود ومحطات توليد الطاقة الكهرومائية”.