خلافًا لبازار الكلام الجاري في سورية ما بعد الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، فاز أحمد الشرع، وحزبه من المقاتلين، في انتخابات الدم في البلاد، بعد أن أزاح نظام بشار الأسد إلى الأبد، وحل مكانه حاكمًا عامًا لسورية حتى الأول من آذار/ مارس 2025، وهو الموعد المفترض كي تبدأ المرحلة الانتقالية نحو سورية الجديدة، أو الجمهورية الثالثة، كما يحلو لبعضهم أن يسميها.
لم يتحدث أحد عن شرعية ثورية، ولم يعلن الشرع وفريقه المرتبك من وقع مفاجأة إسقاط النظام السابق عن حالة طوارئ، أو محاكم تفتيش، على الرغم من وجود ملامح من ذلك في يوميات الحدث السوري هذه الأيام. ولولا قرار إبطال العمل بالدستور السابق، لقلنا إن حالة الطوارئ النافذة من عام 1963 ما زالت تحكم سورية.
شكل الحزب الفائز في انتخابات 8 كانون الأول/ ديسمبر نواة حكومة، وتوسع فيها، وأصدر قوانين وبلاغات، في ظل عدم وجود دستور في الحالة الإسعافية التي تعيشها البلاد، مع حد أدنى من البروتوكولات الطبية اللازمة في غرفة إسعاف سورية، وبإجراءات أولية تبدأ من تطهير الجروح، وتصل إلى حد البتر في حالات تنسب إلى أفراد منفلتين. كل هذا جاء كرد فعل، وليس في سياق سياسي، أو عسكري.
ذلك الانفلات، وفورة الدم تلك، وقلة فهم مفردات المرحلة الجديدة، جعلت بعض الأفراد المقاتلين يتشبهون بنظام الأسد البائد، بظلم بعض الناس من الطائفة العلوية تحديدًا، وأخذ الصالح بالطالح.
الحزب الحاكم الآن في سورية يحق له وفق الجدول الزمني الذي حدده هو نفسه، أن يحكم بما يشبه حالة الطوارئ، ففي الأصل المحاكم الآن معطلة، بينما نسمع في كل يوم، وكل ساعة، عن القبض على رموز من النظام الدموي الأسدي. هؤلاء، في مجموعهم، على الأقل، يمثلون صندوقًا أسود لمرحلة حكم الأقبية المظلمة لما يزيد على 54 عامًا، وهم بالبديهة صيد ثمين لمنظمات حقوق الإنسان السورية، التي تعد منذ سنوات طويلة، في سنين الثورة، وما قبلها، ملفات لمحاسبة منتهكي حقوق السوريين. وإن لم تستغل هذه المنظمات الفرصة، عاجلًا، فقد يُفرِّط “خطأ فردي” بحياة أحد هؤلاء المجرمين، ويأخذ معه شهادته، وما يملكه من أدلة قد تدين النظام السابق برمته، أو تدين أفراده على مدى عشرات السنين منذ 1970.
“لم يتحدث أحد عن شرعية ثورية، ولم يعلن الشرع وفريقه المرتبك من وقع مفاجأة إسقاط النظام السابق عن حالة طوارئ، أو محاكم تفتيش، على الرغم من وجود ملامح من ذلك في يوميات الحدث السوري هذه الأيام”
هنا، على أحمد الشرع، باعتباره المدير التنفيذي لسورية الآن، تشكيل فريق محمي من مقاتليه الخواص لتسلم وتسليم كل من يتم القبض عليه من المتهمين بتنفيذ بروتوكولات المعتقلات السورية، من اعتقالات وأحكام وإعدامات وتغييب، وصولًا إلى كل ما يُحكى عن الاتجار بالأعضاء البشرية للمعتقلين، أو المختطفين، وبيعها إلى كل من إيران وروسيا.
هذا الملف ينبغي أن يكون ساخنًا، وعاجلًا، بمعنى أن تتم المحافظة على هؤلاء تحت أي ظرف، وحمايتهم، والحصول على كل ما يمكن أن يشكل أدلة وشهادات تثبت حقيقة التاريخ الدموي للنظام أمام محاكم محلية، أو دولية. صحيح أن النظام لم يترك قرينة شك واحدة قد تبرئه، لكن المحاكم تحتاج إلى أدلة وشهادات موثقة لا يرقى إليها شك، وإلا يُفسر الشك في مصلحة المتهم.
مرة أخرى، على الحزب الحاكم الفائز في “الانتخابات” أن يقدم برنامجه الانتخابي، على اعتبار أن مفاجأة إسقاط النظام لم تتح لأحد في سورية التفكير في مثل هذه التفاصيل التي تحتاج إلى زمن طويل نسبيًا. هذا “البرنامج الانتخابي” أنجز مهمته الأساسية في إسقاط النظام، ويجري الآن فرض الأمن والسيطرة، وإزالة خطر السلاح المنفلت، وكبح أي فعل، أو كلام، قد يمس بأمن الناس في أنحاء البلاد، والقبض على كل أعوان النظام المتورطين في الدم، أو الاعتقال، أو التعذيب، أو كل ما له صلة بذلك، من خطف، أو احتجاز، وطلب فديات، وهي أعمال قام بها شبيحة النظام ممن فتحوا دكاكين على حسابهم كان أقلها التعفيش وعرض متاع الناس للبيع في ما عُرف قبل سنوات بـ”أسواق السُنَّة”.
الحزب الحاكم في دمشق اليوم أمام فرصة سانحة لإثبات جدارته في إدارة شتات دولة، ومحاولة تأمين الموارد المالية لإصلاح وترميم ما يمكن تسييره من بنية تحتية متهالكة، وتوفير المياه والكهرباء. وأمام فرصة أن يقدم نفسه كمدير للمرحلة الانتقالية، عندما يتم اختيار مجلس تأسيسي، وتتم كتابة دستور للبلاد، والاستفتاء عليه ليكون دستورًا مؤقتًا، أو دائمًا. ومن ثم وضع قانون انتخابي، تمهيدًا لانتخاب برلمان، برلمان قد ينتخب رئيسًا للبلاد إذا تم اعتماد النظام البرلماني، أو يراقب انتخابات عامة في ما لو تم اعتماد النظام الرئاسي. كل ذلك أمام المدير العام لسورية، لكي يعد سورية لمرحلة أن يكون رئيسًا لسورية إذا كان يطمح لهذا المنصب، وكي يتنافس مع آخرين ترشحهم الأحزاب التي تعد نفسها الآن للتقدم وكسب ثقة السوريين.
في ما يتعلق بهذه المرحلة، ليس هنالك وهم لدى أحد من السوريين أن السنِّي سينتخب المرشح المسيحي، أو ينتخب الكردي مرشحًا عربيًا. ما زلنا بعيدين عن هذه المثالية التي تقدم الكفاءة على الانتماء الديني، أو العرقي، وأن تكون خيارات السوريين لبرنامج انتخابي سياسي بغض النظر عن انتماء المرشح. نعم، ما زلنا في حاجة إلى تدريب، والمهم الآن التدرب على الاختيار، وننتظر إن كان المستقبل سيشهد خيارًا سياسيًا للسوريين في انتخابات يكونون قد اعتادوا فيها أن تكون حرة ونزيهة، مع أقل ما يمكن من التجاوزات.
شارك هذا المقال