بخروج سوريا من تحت عباءة الولي الفقيه سيتغيّر توازن القوى في المنطقة بغض النظر عن طبيعة الحكم الجديد، وفي نهاية المطاف لم تعد سوريا تحت الحكم العلوي للمرّة الأولى منذ عام 1966.
انتهت لعبة إيران في لبنان وسوريا
من أطرف ما صدر عن المسؤولين في “الجمهوريّة الإسلاميّة” اعتراض هؤلاء على كلّ من يتحدّث عن تدخلّ إيران في الشؤون الداخلية السورية. الواقع أنّ الاعتراض الإيراني في مكانه، لا لشيء سوى لأن سوريا شأن إيراني داخلي، خصوصا في السنوات الـ24 من حكم بشّار الأسد الذي وقع تحت سطوة حسن نصرالله الأمين العام السابق لـ”حزب الله” الذي اغتالته إسرائيل أواخر أيلول – سبتمبر الماضي.
يكفي من أجل إعطاء فكرة عن مدى ارتباط النظام السوري السابق بـ”الجمهورية الإسلاميّة” الشراكة في اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 وما استتبع ذلك، وما سبقه. الحديث هنا، عن جرائم استهدفت الشرفاء في لبنان من جهة ثمّ مشاركة “حزب الله” بشكل مباشر في الحرب التي شنّها بشّار الأسد على الشعب السوري ابتداء من العام 2011 من جهة أخرى.
يرفض المسؤولون الإيرانيون أخذ العلم بما حصل في سوريا، أي بالتغيير الكبير الذي يتجاوز حدود سوريا التي لم تعد تحت حكم نظام علوي… أي تحت الوصاية الإيرانية، خصوصا منذ خلافة بشّار الأسد لوالده في العام 2000. هذا لا يعني أن حافظ الأسد لم يكن يتأثّر بإيران منذ قيام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في العام 1979. كلّ ما في الأمر أنّ الأسد الأب وضع الأسس للوصاية الإيرانيّة على سوريا وكرّسها من زاوية مذهبيّة أوّلا. لكن بشّار استطاع تطوير هذه الأسس إلى أن وصل، في مرحلة معيّنة، إلى السقوط كلّيا في الحضن الإيراني. يؤكّد ذلك اضطرار “الجمهوريّة الإسلامية” إلى تدخل مباشر وغير مباشر ابتداء من العام 2011 للحؤول دون سقوط النظام.
◄ صحيح أنّه لا يمكن تجاهل عظمة الحضارة الفارسيّة، لكنّ الصحيح أيضا أنّه لا يمكن تجاهل أنّ دول المنطقة لا تستطيع عزل نفسها عمّا يدور في العالم الحضاري
جاء الاستنجاد بالروس لتفادي هزيمة كبرى لبشار ونظامه بعدما فشلت الميليشيات التابعة لإيران في منع تقدّم قوى المعارضة في طول الساحل السوري. ما لا يمكن تجاهله في أيّ وقت أنّ طلب إيران التدخل الروسي نقله إلى موسكو قاسم سليماني في أيلول – سبتمبر 2015. كان قاسم سليماني الذي اغتاله الأميركيون مطلع العام 2020، بعيد مغادرته مطار بغداد، القائد العسكري الإيراني الأبرز على صعيد المنطقة كلّها. كانت كلّ الميليشيات المذهبيّة التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني في إمرته.
يبدو حجم الهزيمة الإيرانيّة في سوريا كبيرا إلى درجة يصعب معها على “الجمهورية الإسلاميّة” استيعاب أبعادها. الأهمّ من ذلك كلّه أن المسؤولين الإيرانيين يتجاهلون الأسباب التي قادت إلى تلك الهزيمة التي بدأت عمليا مع الرهان على إمكان الاستفادة من هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنّته “حماس” على مستوطنات غلاف غزّة في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023. كشف سعي إيران إلى الذهاب بعيدا في استغلال “طوفان الأقصى” وشنّ حروب خاصة بها إلى انقلاب السحر على الساحر. خسرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” استثمارها في “حماس” كما خسرت “حزب الله”، الجوهرة الأكبر في تاج المشروع التوسّعي الإيراني الذي كانت له انطلاقة جديدة في العام 2003. جاءت الانطلاقة بعد تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” نتيجة حسابات خاطئة لليمين الأميركي ممثلا بالمحافظين الجدد.
بخروج سوريا من تحت عباءة الولي الفقيه، سيتغيّر توازن القوى في المنطقة مجدّدا بغض النظر عن طبيعة الحكم الجديد. في نهاية المطاف، لم تعد سوريا تحت الحكم العلوي للمرّة الأولى منذ 23 شباط – فبراير 1966 عندما نفّذ الضباط العلويون الكبار (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) انقلابهم الأول تمهيدا لانقلاب آخر قاده حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970 تحت شعار “الحركة التصحيحيّة”.
في 8 كانون الأوّل – ديسمبر 2024، فرّ بشّار الأسد إلى موسكو. يومذاك، تأكّد فشل إيران في السيطرة على سوريا. لم تخسر سوريا فحسب، بل خسرت لبنان أيضا. عمليا، خسرت الجسر إلى لبنان. كان هذا الجسر ينقل إلى “حزب الله” كل ما يحتاج إليه من سلاح وأموال وذلك بغية تكريس واقع جديد في الشرق الأوسط. اسم هذا الواقع هو الواقع الإيراني الذي ليس في استطاعة “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاعتراف بأنّه لم يعد قائما.
◄ الأسد الأب وضع الأسس للوصاية الإيرانيّة على سوريا وكرّسها من زاوية مذهبيّة أوّلا. لكن بشّار استطاع تطوير هذه الأسس إلى أن وصل إلى السقوط كليا في الحضن الإيراني
من الواضح أنّ الهجمة الأميركيّة – الإسرائيليّة، التي بدأت ردّا على “طوفان الأقصى”، لن تتوقف عند حدود سوريا بعدما أخذت في طريقها “حزب الله”. ليس مستبعدا أن تؤدي هذه الهجمة إلى ضبط العراق والوصول إلى مرحلة يفهم فيها الحوثيون أنّ ليس أمامهم سوى الخروج من صنعاء والعودة إلى كهوف صعدة والمنطقة المحيطة بها.
تظل السنة 2024، سنة فشل المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة. كيف ستتعاطى “الجمهوريّة الإسلاميّة” مع هذا الفشل الذي يبدو أنّها لا تستطيع الاعتراف به؟ في أساس هذا الفشل ابتلاع “الجمهوريّة الإسلاميّة” للقمة تبيّن أنّها عاجزة عن هضمها. لا تمتلك هذه الجمهوريّة التي أسّسها الخميني المقومات التي تسمح لها بلعب دور أكبر من حجمها. صحيح أنّه لا يمكن تجاهل عظمة الحضارة الفارسيّة، لكنّ الصحيح أيضا أنّه لا يمكن تجاهل أنّ دول المنطقة لا تستطيع عزل نفسها عمّا يدور في العالم الحضاري، أي في أميركا وأوروبا تحديدا. لا تطعم تكنولوجيا الصواريخ الباليستية المستوردة من كوريا الشمالية الشعب الإيراني، الذي يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، خبزا…
لا شكّ أن إيران أمام فرصة لا تعوّض في حال اعترافها بهزيمتها السورية والكلفة الكبيرة لهذه الهزيمة. يبدأ الاعتراف بالهزيمة بالتوقف عن المتاجرة بـ”المقاومة”، أكان ذلك في سوريا أو لبنان أو فلسطين أو العراق… أو اليمن. لبنان ليس “ساحة”. سوريا ليست “ساحة”. انتهت لعبة إيران في لبنان وسوريا. اللعبة باتت في مكان آخر. اللعبة باتت في إيران نفسها حيث الحاجة إلى اعتراف إيراني بأن لسقوط النظام العلوي في سوريا انعكاسات داخل “الجمهوريّة الإسلاميّة” نفسها التي بات مستقبلها على المحكّ. كيف تنقذ إيران نفسها؟ إنه سؤال السنة 2025.
TeilenWhatsAppTwitterFacebook
خيرالله خيرالله
إعلامي لبناني