تنافس على جائزة “جيلر” التي تعد أكبر الجوائز الكندية العالمية هذه السنة 145 رواية عالمية بالإنجليزية، لكن لجنة التحكيم التي يترأسها الشاعر والروائي الكندي إيان ويليامز، اختارت رواية الكاتبة الكندية سارة بيرنشتاين لتفوز بالإجماع، بالجائزة البالغ قيمتها 100 ألف دولار كندي (72 ألف دولار أميركي) عن روايتها “دراسة عن الطاعة”. ويوضح ويليامز أن التجربة الحداثية تستمر في البروز في رواية سارة برنشتاين القصيرة “دراسة عن الطاعة”. وقال، “إنها تطرح السؤال الذي لا ينتهي: ما الذي تنتجه ثقافة القهر والمحو وإقصاء المرأة؟ بطلة برنشتاين التي لم يذكر اسمها، تطالب، بطرق ملتوية وعلى نحو صادم، بثمن كل ما حجبه العالم عنها. النثر يذكرنا بخافيير مارياس أحياناً، وفي أحيان أخرى بصامويل بيكيت. إنه كتاب غير متوقع ومثير للشفقة، ومواربتها المدروسة تفجر نوعاً من السحر الخلاب”.
ولكن خلال حفلة إعلان الرواية الفائزة، مساء الإثنين 13 من الشهر الحالي، ومع بدء الحفلة، انقطع البث التلفزيوني فجأة. وما إن عاد الإرسال وأعلن عن فوز الكاتبة الكندية سارة بيرنشتاين حتى انقطع البث مرة ثانية.
لاحقاً، ظهر أن السبب في المرة الأولى هو أن مجموعة من الأشخاص اقتحموا المنصة رافعين لافتات كتب عليها “بنك سكوتيا يمول الإبادة الجماعية”، وفي الثانية قاطع شاب اسم الفائزة معترضاً على فوزها، مما أجبر المنظمين على تكرار الإعلان مرة أخرى. والحقيقة أن جائزة جيلر تأسست عام 1994 على يد جاك رابينوفيتش تخليداً لذكرى زوجته الكاتبة دوريس جيلر التي توفيت بمرض السرطان. وفي عام 2005، أي بعد 11 عاماً من انطلاقها، تعاونت مع بنك سكوتيا لزيادة قيمتها من 25 ألف دولار إلى 50 ألف دولار، ثم زيدت قيمتها مرة أخرى في بداية عام 2008 إلى 70، ثم إلى 140 ألفاً، وهو ما شكل بالطبع فارقاً في طلاقة يد الجائزة وقدرتها على تمويل أكبر قدر من الأنشطة الثقافية الممكنة. وعبر 30 عاماً قامت بتكريم عدد من الكتاب المشهورين بعضهم فاز بنوبل ومنهم أليس مونرو، ومارغريت أتوود، ومايكل أونداتجي، ومردخاي ريشلر، وغيرهم من المواهب المتميزة، وكانت بالفعل نقطة انطلاق قوية لعدد كبير من الكتاب.
اتضح من صياح أحد المتظاهرين أن البنك “له حصة بقيمة 500 مليون دولار في شركة Elbit Systems” وهي شركة تصنيع أسلحة مقرها إسرائيل، تعرضت لانتقادات كثيرة بعد “طوفان الأقصى” الذي راح ضحيته آلاف الفلسطينيي، فضلاً عن فرار الآلاف من بيوتهم، هذا هو سر قطع البث الأول، علماً أنه لا علاقة للكتاب الفائز أو مؤلفته بما يجري في فلسطين المحتلة.
فروض الطاعة
“دراسة عن الطاعة” هي الرواية الثانية للكاتبة سارة بيرنشتاين التي تم اختيارها، أخيراً، كواحدة من أفضل الروائيين البريطانيين الشباب في غرانتا، وهي مرشحة أيضاً في قائمة البوكر القصيرة، التي من المقرر الإعلان عن الفائز بها نهاية نوفمبر (تشرين الثاني)، أي بعد أيام. لو حدث هذا وفازت بيرنشتاين بالبوكر، فيصبح هذا ثالث حدث سعيد لها في هذا العام. قبل الإعلان عن فوزها بجائزة جيلر بـ10 أيام، أنجبت برنشتاين طفلاً جديداً، ولذا شاركت من بيتها في اسكتلندا عن بعد، ولم تفطن لما حدث في القاعة، وحين سئلت عن إحساسها بالفوز بأكبر جائزة في البلاد، ابتسمت بإرهاق قائلة “لم أنم جيداً منذ 10 أيام، لذلك أعتقد أن شعوراً بالسوريالية يتدفق حولي. حواف كل شيء تبدو ضبابية بعض الشيء”.
نحن حيال رواية تاريخية كما يبدو من خطاب قبولها للجائزة، ولكنها تتبع طرقاً مختلفة عما هو معهود في التأريخ، أو بالأحرى، تروي تاريخاً لا يتفق مع السجلات الموثقة وربما تجمع الاثنين معاً. تقول بيرنشتاين “أنا محظوظة بالفعل لأنني أتيحت لي الفرصة لرواية هذه القصة، أؤمن كثيراً الآن بمدى أهمية دعم المؤلفين مادياً لرواية قصص شعوبهم، بطرقهم الخاصة، لا سيما عندما تتحدى قصصهم الروايات التاريخية السائدة”.
شيء من الفضول يجعلنا نتساءل، من هم شعب بيرنشتاين الذين حالفهما الحظ لتروي قصتهم بـ”طريقتها الخاصة” وعلى نحو يتحدى الروايات المعروفة!
تتبع الرواية امرأة مجهولة الاسم تغادر البلد الذي ولدت فيه إلى “دولة شمالية نائية” مجهولة الاسم أيضاً، وهذا تلبية لحاجة شقيقها رجل الأعمال الذي انفصل عن زوجته ويريدها أن تدير منزله. بمجرد وصولها، تنشغل بقصره الفخم وحديقته الغناء، لكن المهام والمسؤوليات التي تتولاها تبدو أقرب إلى العبودية من مجرد التدبير المنزلي. من هنا تظهر أول سمة للشخصية التي تعودت أن تكون “خادمة مخلصة ودائمة” لأشقائها منذ الطفولة على الرغم من أنها ليست الكبرى، لكن شقيقها الذي استقدمها لخدمته هو نفسه من دربها، كما تعترف، على “إعادة توجيه كل رغباتي في خدمة شخص آخر”. تروي بيرنشتاين بضمير المتكلم “أنا” الذي لا يهنأ إلا بالذوبان في الجميع، “ابتسمت حين نفذت أوامر الآخرين” على هذا النحو تتذكر طفولتها.
فضلاً عن غياب الأسماء وطمس معالم المكان، يتكئ السرد على الإشارة والمواربة ليقع على القارئ وحده عبء تجميع الإشارات كما في أعمال جيمس جويس وصمويل بيكيت. غير أن ما تقود إليه تلك الإشارات قد يفضح تشوهات مريعة في نسيج شعبها وعلاقتها المسمومة مع شقيقها، عبر التليمحات فحسب: “كان يحب ارتداء الملابس عند مدخل غرفته، والتأكد من أنني أراه”، ثم نتفاجأ بها تحممه معترفة أنها شعرت بالتوتر في ظهره وهي تدعكه بالصابون، وانتصابه وهي تلبسه هدومه.
أرض النفاق
بعد فترة وجيزة من وصولها، يجنح السرد إلى منطقة غرائبية حيث ينتاب القرية نوع من الهلع بعد سلسلة من الكوارث البيئية. تصف الراوية العام الذي وصلت فيه: “لقد كان العام الذي سحقت فيه الخنزيرة صغارها. كان أحد الكلاب يعاني حملاً وهمياً”. تتوالى الأحداث المروعة التي بدأت باكتئاب الخنزيرة الأم، فدهست صغارها من دون وعي منها لتشمل البقر فتجتاحها هستيريا، وتغزو الآفة محصول البطاطا. “أي شيطان حل ببلدتنا الطيبة، أي عرق يحاول الاندساس في دمنا النقي؟”. يتجه تطير القرويين إلى الوافد الجديد، فنلمح الرعب الذي تثيره المرأة المجهولة في الآخرين، الأمهات يغطين أعين أطفالهن عند مرورها، زبائن المقهى يرسمون شارة الصليب خلسة، وحين تعجز عن استعمال لغتهم فتشير إلى فنجان قهوة أمام امرأة وتنفجر في البكاء. في المتجر يجلس البائع خلف منضدته في وضع التأهب، كمن يتوقع شراً مستطيراً بينما تتفحص أرفف البضائع.
مع ميل القرويين إلى الخرافات تعتقد المرأة أنها وصلت في التوقيت الخطأ، “كنت أعلم أنهم على حق في تحميلي المسؤولية”. وما لا يساعدها على تبرئة نفسها أو عقد أواصر حقيقية مع جيرانها، هو عدم قدرتها على تعلم لغتهم: “لم أواجه قط مشكلة في اكتساب اللغة حتى تلك اللحظة، في طفولتي كنت أتحدث أربع لغات، فقدت اثنتين منها على الأقل مع مرور الأيام، ومع ذلك تابعت دراستي للغات الأجنبية بطريقة عشوائية. في الجامعة، تعلمت الألمانية والإيطالية بسهولة، وفي الواقع، كانت السهولة التي قرأت بها وكتبت بها، ناهيك بالتحدث بهاتين اللغتين، بعد شهر تقريباً من حضور الفصول الأسبوعية، أذهلت أساتذتي إلى حد كبير”. ما طبيعة تلك اللغة التي أعجزت الطالبة النجيبة، لدرجة البكاء؟
راو غير موثوق منه
تتخيل بطلة برنشتاين أن العالم بأكمله يطاردها، الأرض تلفظها، الذنب يلاحقها، وكان طبيعياً أن تعلن الضعة عن نفسها كهوية: “لم أكن من المكان، بالتالي لم أكن أي شيء”. لهذا كان على برنشتاين أن تتنازل عن المكان مع علمها بأهميته في الرواية. المكان ببساطة هو ما يقنعنا بالقصة وشخصياتها، حتى مع علمنا أنهم من صنع الخيال، ومن دونه ندخل حتماً أرض الأسطورة، ولكن ما حيلتها لتقديم شخصية موزعة في كل أرض، لا تحمل رائحة الوطن، مما يفسر سر ذوبانها في الجميع على الرغم من السرد المروي بضمير الأنا. إن رغبتها في التواصل الملح، وتوقها إلى القبول يدفعانها إلى صنع عرائس من أعواد الباغ وتركها على عتبات البيوت التي رفضتها، لكن هديتها الماكرة تنشر الذعر أكثر في البلدة التي سبق واضطهدت أسلافها كما يتبين من الإشارات. من هم أسلافها؟ تقول “شعب غامض، مذموم، تمت ملاحقته عبر الحدود ووضعه في الحفر”!
في المقهى حين يسقط طبق الحلوى من يد النادل المرتعب من مجرد الاقتراب منها، يتبعثر الملح. ترش قليلاً منه على كتفها، قائلة “عادة قديمة تعلمتها على مائدة السبت”!
تتدفق التلميحات التي تردها تارة إلى الطابع الشرقي كما الوصف المستفيض لأمها في المطبخ، “تطهو الكشك، تملح الكبد، تحمص الدجاج، تقطع الرنجة”، وتلك التي توحي بأصلها الأوروبي، وشعبها، الذي لديه حاخامات يؤكدون ازدراء العالم لهم. “كان ذلك في أواخر القرن الـ20. ماذا بقي لنا؟ كتاب صلاة، وبعض قصاصات الأغاني، ودرس تاريخي يبدأ بالدمار”. لهذا حدث القطع الثاني في حفلة توزيع جوائز جيلر المنقول من فندق “فور سيزون” في مدينة تورونتو، كندا.
في روايتها الأولى “الأيام السيئة القادمة” 2021، ظهرت عقدة الاضطهاد أيضاً لدى بطلة بيرنشتاين، ولكنها في “دراسة عن الطاعة” تصل من التضخم حد أن تجر كل ما سبق سرده إلى منطقة الوهم والخيال، بخاصة أن النص بلا حوار، فيتعذر علينا أن نحدد ما إذا كان حدث بالفعل، أم أن هناك تلاعباً ذكياً يجري على مدار 200 صفحة، وعلى القارئ ألا ينخدع بتتبع الإشارات المضللة التي نثرتها على طول السرد.