ديوان الغائبين
نص صور 1 
قبل أن تُتمَّ السادسة والعشرين من عمرها، رحلت الشاعرة السورية الجميلة وفاء شيب الدين (1972-1998) نتيجة حادث سير تعرّضت له في العاصمة دمشق. هجرت الشاعرة الشابة التي تنتمي إلى جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين بما تنطوي عليه تلك الحقبة من خصوصية معقدة وقاسية في سوريا، خصوصية سياسية واقتصادية وأيديولوجية؛ هجرت لغتها لتحيا الموت فعلاً، فهي مَن كابدت سؤاله، حتى استحال لديها نبوءة. والشاعرة التي تركت جبل العرب قاصدة دمشق بهدف الدراسة الجامعية، فحال الموت دون إكمال دراستها في علم النفس، عاشت سنوات طفولتها العشر الأولى في لبنان، ثم عادت مع أسرتها بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، إلى السويداء مسقط رأس والدَيها، وقد تركت سنوات الطفولة تلك أثراً بالغاً في شعرها وآثارها الأدبيّة عموماً، من حيث الطبيعة الجغرافية الجميلة للبنان، والحرب وما ارتبط بها من مآسٍ وذكريات الملاجئ والأقبية…
تركت الشاعرة إرثاً أدبيّاً متنوِّعاً: قصص لم تُطبع بعد، ورواية لم تكتمل، وقصائد كثيرة نُشر بعضها في ديوان حمل عنوان:
«خطيئة الرّمّان» (اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، سلسلة الشعر”5″، 2011).خطيئة زهر الرّمان*

وفاء شيب الدين

لِمَ لا ترحلون؟؟
لي عزلتي
صمتي
هذياناتي
خذوا كلّ أصابعي
لا تنسوا غرفتي…أشيائي
واتركوا لي وحدتي
براءتي
جنوني
وماذا بعد؟؟؟
غير أن تتركوا لقدميّ القليل من الرّفض
لي ذعري على الكائنات من احتمال انقراض الغابة
لم يساوركم النّحل يوماً
لم تثلجوا…لم تحبّوا كاللّوز
يترقرقُ زهر الرّمان بين شفتي
يتمَسْكنُ الفجر عند ليلي
يتوقفُ وقتي المشدود إلى أرنب
أمسحُ وجهي عن المرآة
أمحو أنفاسي الملتصقة فوق الزجاج
وأختفي
دعوني
متعبة أنا
متعبة كانغلاق نافذة مُهمَلة
سأنفجر…
ابتعدوا بسرعة
سأتوزّع في الجهات جميعها…ثمّ
لا تكنسوا الأمكنة بعد خرابي..

******

حَرْث..
وفاء شيب الدين

كطفل حزين يجلس بعيداً ليلفت انتباه الآخرين
كدودة في تينة الشتاء اليابسة تحكي للبذور ذكرياتها مع الشمس
كورق الشجر يرغب في ملامسة التراب والأرصفة، فيصفرّ ويقع
كالرّيح يطيّر شعرها للخلف ليرى عينيها جيّداً
كالثلج يتوحّش في الأبيض لينحت الغليان
كبقايا شمعة تشكّلت فوق الطاولة ليلة البارحة
وطبقة الغبار الكثيفة عند حديد النافذة، وننفخ عليه
كطيّارة الورق علت كثيراً حين فرح الأطفال…وبقيت
عالقة في شجرة الصنوبر حين ملّوا…وعادوا للبيت
كحمار ما زال يمشي رغم أكياس القمح والشعير والعصا
كزجاج سقط من الغيم على الرّخام
كحبّتي كرز، قُطِفتا معاً، غُسِلتا معاً، وُضِعتا في الصحن معاً
وافترقتا حين أخذ هو حبّة، وأطعمها الأخرى
كعصفور أصيب طار وحطّ، طار وحطّ…
ثم طار وحطّ….مات….ولم يعثر الصيّاد عليه
كالرّمان يفتح جلده للشمس، يتصلّب….يتصلّب
ولم تزل حياته تقطر بالأحمر…
كعود الحطب يشتعل فوق الماء طقساً للموت
كالماء يهجم لجبهة ساخنة
كالفراشة يشغلها الضوء، تحترق، تحترق..
وتقترب
كالنّوم البطيء تصنعه حكاية الجدّة تحت اللّحاف
كأن تغلق الباب عليك وتتأمل وجهك في المرآة على مهل
كأن تراقب تفاصيل جسدك طويلاً وأنتَ تستحم
كالثعالب تجوع، تجوع والخراف تترنّح عن بعد
كأن تُغمَر الأرض بالكستناء…الكستناء، يصير العالم
بنيّاً، وفجأة….تسقط برتقالة
كأن تمطِر خواتم فيروزيّة، تبقى في الهواء….تشعل
الريح وينقلها….يظلّ ينقلها…
كالخمرة تُشرَب دفعة واحدة
كالتراب نحمله ثم نفرده ويدخل في أظافرنا
كالرقص على التوتياء
كالتسطّح فوق نبتة صبّار
كطقطقة الملاعق فوق الصّحون تُناقِش اللّقمة الأخيرة
كالباب الخشبيّ العتيق، حركة واحدة ويهوي
كالقفز من أعلى الجبل إلى صخرة مصقولة
كالجليد بنقطة حمراء، كان ماء سقطت فيه ياقوتة
كالدّجاج ينبش المكان، يقلبه…يبعثره، ينقر حبّة قمح
يُنزل برازه بهدوء ويهرول…
كالأسنان تُسدَّد، تطلق…وتُثقب التفاحة
كأن تنتبه فجأة أنها تمطر بينما أنتَ لوحدك في الغرفة
كالدرّاق يستوي كثيراً فتأكله أصابعكَ أوّلاً
كجثّة فوق البحر
كالصّمت…الصّمت…الصّمت…
وتُطلق الرّصاصة..
هكذا أنا..
28/8/1997

*****

مبللة بالبدء…مفرطة الانتهاء

وفاء شيب الدين

خاص ألف

2010-07-07

كم أنا وحدي
ستسامحني الحياة
فقد عرفتني مرتين
يوم جئت…ويوم رحلت
مبللة بالبدء…مفرطة الانتهاء
أشطر صوتي، ألثغ
لاشيء يستحق الضوء كالعتمة
تنحره….ويفترسها
*****
كم أنا وحدي
هذا الناعم حول عيني نزيف
كم مرة ظننته بكاء يا أبي، ومشّطتْ أصابعك حواجبي
“سكوت”
تآمر على الوقت
يغرز قدمه في رغبتي
ويسيح فوضى في غرفتي
ينتفع بأطفالي المرشوشين على الأرض والسقف
والحيطان
يفتح بوابات الملح على الأزرق
وبقلق كالدهشة تفارق صلابة الأصوات
يتأمل الماء شحوبي
يقترب، ليفكك جسدي قطرة قطرة…
كم أنا وحدي

***
أبقيني يا أمنا تحت اللحاف، ودعي يدك تفتح الساخن
فوق جبيني
حجة الهواء نحن
وأتطرّق إلينا، حجتنا الهواء
أيامي، قماش رقيق لا يحتمل الشد
وهذه الشتيمة في دمي لا ترخي
“ستلين المفاجأة” نبّهني الجميع
والسر المطير بين أصابعي
لمّا يزل يفضح خروجي وعودتي
أقامر بما تبقى من الهواء
وأتأخر على الصباح قبل أن تمسك الشمس مغامرة أخيرة.
أغلق الأبواب والنوافذ
وأستشيط حرية……
*****
إذا ما طلبتُ أن أكون لوحدي
طلبتُ للوحدة أن تُجلد
فما وقع السوط إلا وفق ظهري
ما أمتعني حين أكون معي…وما أوجعني
أحْرِفُ وجهي للجبال، أستفزّ عينيّ لتفهم المسافة
يتفرّسني الغيم منتشياً
يتكدّس، يلتفّ، ينكشف، ينفرط، ينغلق، يخف،
يرتعش…
والفتنة الثقيلة، الثقيلة فوق ذراعي
أحملها رغم كل التعب…والتعب
تلوذ بعيشي
وأتمرّد بما لا يُعقل من الموت
متنوّع جسدي…والحب واحد
متوجّس حضوري وغيابي…والمكان واحد
عديدة حقائقي واحتمالاتي…والحياة واحدة
كثير أزرقي…والموت واحد.

22/9/1997
عليك الحياة

ما الذي سيمنعك من الحياة؟
ويعصر عليك صمغاً لتلتصق ركبتك برقبتك
كالذي سيمنعك من الموت
يرثي القبور في بلاغة الظهيرة
ويقايض العتمة بجسد أنثى ليلاً

كالذي سيحتشم بحضور البحر
يؤرّقه الماء
افتضح ملائكته يوم حوّمت كدلوٍ صُبّ فيه كل لعاب البلادة
لسانه المدلوق كغسيل نشر بوهن
يغرورق بالمديح

كالذي يدقّ الحدوة لأخيه…يؤخر الطرق ريثما
يقرعون الصّنج…ليهرع
من تنتظر ليحيّر الطرقات تحت قدميك
دع الحنش يرتجلها تتوحّش
تشفّ المسافات….
وتصير الأرض عتبة دخولك في جسوم العدم

إذ تسند وجعك لسلحفاة، يشي التباطؤ بك
يمعن بنهم عينيك
يرتعد لملامحك المغسولة كشراع والموج عالي
مترف بالشوك والنار
ومكيدة انتحار ترقّق الموت كفكاهة
إذ تعبّ قهرك في ثيابك قنفذاً
يفتك جلدك
يعصف دمك على المكان
تهرق وحشتك حتى آخر الكائنات
وتبشّر الصمت بسكون النطفة

عليك الحياة…
عذّب قصَبَها، وزفّ للذئاب مراهقتك
تحرّ أين مقتلك وسدّد
شدّ إليك شغف الفاكهة
لا تدع الحشائش تجهلك حين ترعاها حبلى بمساء خفيف
تأبّط الساعد الذي تحب، يتضح لأصابعك البطش
لا تسرق الجرو قبل أن تراك اللبوة

الجميل ليس أنك متّ مفقوداً
أيضاً….ملعوناً

*من ديوان (خطيئة الرمان)،مطبعة اتحاد الكتاب العرب، ص19-20