عن فلسفة الهزل وتجسيداته في الفن والحياة

حظي الضحك بدراسات عديدة في الكتابات القديمة والحديثة، وجرى ربطه بالهزل، بوصفه موضوعًا له. وتناول الفلاسفة والمفكرون الضحك بوصفه جزءًا من الحياة البشرية، حيث اجتهد عدد منهم في تحليل كيفية اشتغال المضحك والهزلي، من خلال التخييل الإنساني والجمعي في الفن والحياة، وراحوا يبحثون في تحليل وظائف الفكاهة والضحك، وتبيان آليات الهزلي والمضحك في الأدب الهزلي، وخاصة المسرح الهزلي، وتلمّس الأسباب التي تجعلنا نضحك، والكيفيات التي يتحول فيها.
في كتابه “الضحك: في معنى الهزل” (مجموعة من المترجمين، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2023)، يحلل الفيلسوف الفرنسي، هنري برغسون (1859 ـ 1941)، ظاهرة الهزل، بوصفها موضوعًا للضحك، من خلال تناول كيفياته وتجلياته وأشكاله في الحياة والفن. ويقدم فيه فلسفة للهزل الإنساني، ترجع الضحك بوصفه الفعل المنعكس عن الهزل إلى معانيه ومدلولاته الاجتماعية، حيث يبدو الهزل كنوع من اللا تكيف في الفرد حيال المجتمع، ويشير إلى كل “ما يثير السخرية، سواء أكان قولًا أم فعلًا، وهو أيضًا التلفظ بالكلام الذي لا يراد به معناه الحقيقي”، أما الضحك فهو “حالة من السعادة والبهجة، بسبب قول أو فعل أو موقف”. ومن شروط المضحك أن يحصل في جماعة، أو أن يرتبط بالتصرف في الجماعة، في ما تبنى فلسفة الضحك على فكرة أن الضحك يلغي كل المشاكل بمجرد الشعور باللامبالاة، التي تشكل بيئة الضحك.
ينطلق برغسون من أن الضحك متعة، وأن البشرية تغتنم أدنى فرصة لخلق هذه المتعة، ويبدأ من النظر في الهزلي بشكل عام، عادًا أنه ظاهرة إنسانية محضة، ومميزة، فالإنسان ليس كائنًا ضاحكًا فقط، بل أيضًا هو كائن يثير الضحك، فيما يتطلب الهزلي نوعًا من اللامبالاة والانفصال عن الحساسية والانفعال، إضافة إلى أننا نضحك جماعيًا، حيث من الصعب أن نضحك فرادى، لأن الضحك يحتاج إلى صدى، وغالبًا ما نضحك ضمن مجموعة تشاركنا إياه. ثم ينتقل إلى معالجة هزل الأشكال والحركات والإيماءات، ويتناول بعدها هزل الوضعيات والمواقف والكلمات، ليتوقف عند هزل الشخصيات. ويرى أن هزل الأشكال والحركات ينتج عن التفكير بأن الجسد أشبه بالآلة، ويثير الضحك حين يصاب بالتصلّب، أو السرعة المكتسبة، فعندما يسير رجل في شارع فإن ذلك يبدو عاديًا للناس، لكن حين تنزلق قدمه ويسقط مثلًا في ساقية ماء أو بركة، سيثير انزلاقه المفاجئ الضحك، وباعتبار أنه لم يكن حذرًا تمامًا، فقد قام بحركته بنوع من التصلّب الميكانيكي، وسقط بسبب تصلّب حركته، وهذا ما جعل من حوله يضحكون. ولعل برغسون يفترض أن ما يجعل الناس يضحكون ليس التغير المفاجئ، بل ذلك الشيء غير الإرادي في التغير، الذي يتحدد في تدخل شيء ما ميكانيكي على حركة الرجل، حين تستمر عضلاته القيام بذات الحركة على الرغم من تغير الظروف، ولذلك يقع الرجل، ويضحك من يشاهدونه. فالناس يضحكون عندما يرون هذه الآلية الجامدة تتمثل في الجسد وحركاته، أو عندما يحاكي أحدهم ما هو آلي لدى شخص آخر، بمعنى أن تحول الحياة إلى مجرد محاكاة آلية هو سبب للضحك، هدفه تقويم النشاز والخروج عن المألوف في اللباس والحركات، على غرار المهرجين والشخصيات الهزلية في المسرح الكوميدي. وحين نحصر “الأفعال والتصرفات التي تقوض الحياة الفردية أو الاجتماعية، فإن كل ما تبقى يقع خارج الانفعال والصراع، في منطقة محايدة يكون فيها الإنسان فرجة للآخر، هو تصلب جسدي وفكري وطبعي يسعى المجتمع إلى إزالته من أجل جعل أفراده أكثر مرونة وأكثر انخراطًا في الحياة الاجتماعية. هذا التصلب هو الهزل، والضحك هو عقوبته”. غير أن التصلب الذي يصيب الجسد الحي مبني على افتراضنا أنه يمثل قمة المرونة والنشاط المتيقظ دائمًا، فيما يجسد هذا النشاط في الحقيقة نشاط الروح وليس الجسد.

يميز برغسون بين الهزل في الصور والهزل في الحركات، وبين الموقف الهزلي والكلام الهزلي، ويُعرّف هزل الأحداث بأنه شرود الأشياء تمامًا، حيث ينهض هزل الشخصيات الفردية دائمًا على شرود أساسي للشخص، لكن شرود الأحداث استثنائي، لأن آثاره خفيفة. ويمكن لسلسلة من الأحداث أن تصبح هزلية، إما عن طريق التكرار، أو العكس، أو عن طريق التداخل، حيث إن ما يدخل في نطاق الهزل هو كل تناول لسلسلة من الأحداث وتكرارها بأسلوب جديد أو داخل بيئة جديدة، أو عكسها مع الاحتفاظ بمعناها أو مزجها، بحيث تتداخل كل معانيها بعضها مع بعض. ثم يقوم برغسون باستقصاء أثر الهزل في الأفعال والوضعيات، الذي نراه في الحياة اليومية، لكنه يفضل تعقب تجلياته في المسرح، بوصفه تضخيمًا للحياة وتبسيطًا لها، ويمكن للملهاة أن تعلمنا أثر الهزل أكثر من الحياة الواقعية، ذلك أن الهزل في حقيقة الأمر لعبة تحاكي الحياة، باعتبار أن ما يعدّ هزلًا يتجلى في كل تنسيق لأفعال وأحداث توهمنا بوجود الحياة فيها، إذا ما تداخل بعضها مع بعض، وتعطينا إحساسًا جليًا بوجود تنسيق آلي فيها. وكلنا يعرف الضحك المتواصل الذي ينتشر بفعل العدوى، حيث يحتاج الضحك إلى استجابة جماعية، تخفي وراءها فكرة تفاهم وتواطؤ مع الضاحكين الآخرين، سواء الحقيقيين منهم أم الخياليين، لذلك يقال إن ضحكة المتفرج في المسرح، عادة ما تكون أعرض كلما كانت صالة العرض ممتلئة أكثر، ما يعني أن الضحك اجتماعي أكثر مما هو فني، الأمر الذي يفسر أن كثيرًا من الأعمال والمؤلفات الكوميدية غير قابلة للترجمة من لغة إلى أخرى، كونها تتعلق بأفكار مجتمع معين.
أما هزل الكلام، فإن معظم التأثيرات التي يتناولها برغسون تحدث بالفعل بواسطة اللغة، لكنه يميز بين الهزل الذي تعبّر عنه اللغة، وذلك الذي تنشئه اللغة. وعليه يميز بين ما هو ظريف وما هو هزلي، إذ يقال عن كلمة ما إنها هزلية عندما تجعلنا نضحك من قائلها، وظريفة عندما تجعلنا نضحك من ظرف ثالث، أو من أنفسنا، لكن في مطلق الأحوال لا يمكن الجزم بأن الكلمة هزلية أم ظريفة، لكنها ببساطة مضحكة. ثم يلقي الضوء على النكتة، حيث أن كلمة نكتة تجعلنا على أقل تقدير نبتسم، ذلك أن النكتة هي طريقة درامية معينة في التفكير، وتتمثل بشكل عام في رؤية الأشياء من منظور مسرحي، لكن اللغة تجترح الكلمات، أو بالأحرى الكلام الهزلي، في غفلة منها، مبتعدة عن وظيفتها التواصلية والتعبيرية من خلال إنشاء علاقة مع الغير والخارج، حيث تقوم اللغة في إنتاج الكلام نفسه بعد تغيير يقطع الصلة، أو يخلّ بالترسيمة، فيغدو الكلام هزلًا تستدرج الضحك. ومع تجاوز إدراك هذه الآلية نصل إلى ما يمكن تسميته صناعة الهزل. أما في المستوى الأعلى من الهزل، ذاك الملازم للطبائع، أو ما يسمّيه برغسون “الهزل في الطبائع”، فإن المجتمع يحضر بقوة، حيث يشتمل الطبع على ما يظهر من صور الهزل في الأشكال والحركات وفي الكلام والمواقف، بالترافق مع ما يشمله المجتمع من أصحاب الطبائع، وما يظهر منهم من كلّ ذلك. وحين يحضر الهزل في الطبائع علينا تذكر الآلي المتسرب إلى الحيّ، عندما يصبح الطبع نفسه آلة لإنتاج ما هو آليٌ من الكلام ومن المواقف والأفعال، وينشرها في حقل الحياة الاجتماعية المستهجن للآلي.
يبدع برغسون في تحليل الشخصية الهزلية في الجزء الأهم من كتابه، إذ يرى أن هذه الشخصية تسير في طريقها على نحو آلي، لا تبالي بمن حولها، ويساهم الضحك في تصحيح شرودها وإخراجها من ذلك الحلم الذي تعيش وسطه. وتكون الشخصية عمومًا هزلية، ضمن السياق الدقيق الذي تنسى نفسها فيه، انطلاقًا من أن الهزل هو لاوعي، فمن يقدر على الضحك من نفسه سيكف عن كونه جادًا، وسيمضي في ممارسة طقوسه. وعلى العكس من ذلك، فإن الشخصية التراجيدية تدرك تمامًا ما تقوم به وما ينبغي عليها فعله، بما في ذلك الأعمال الفظيعة التي يمكن أن ترتكبها. كما أن هناك اختلافًا كبيرًا بين التراجيديا والكوميديا، أو بالأحرى المسرح الهزلي، إذ تتعلق التراجيديا بالأفراد، وتختار أسماء علم مثل ماكبث، وهاملت، وعطيل، والملك لير، وأوتيلو، بينما يتعلق المسرح الهزلي بالأنواع، حيث تختار المسرحيات الهزلية عناوين مشتقة من صفات عامة، أو نوعية، مثل البخيل، والمقامر، والأهبل، والشارد. وتُعرف الشخصية الهزلية بعيوبها، وبنوع هذه الشخصية، في محاولة لإظهارها، والحكم عليها أخلاقيًا، لأن العيب، بوصفه عادة سيئة من عادات الطبيعة، أو تصلب وتخشب في الإرادة، يشبه في الغالب حالة من حالات ضعف النفس. وعليه تصف الكوميديا الشخصية الهزلية لفرد ما، بأنه بخيل، منافق، ثرثار، متحذلق، كذاب… إلخ، ويتم إبراز عاداته المتصلبة مقابل مرونة الحياة، فيصبح الشخص مضحكًا، ونسخر منه، ومن تبجحه وسطحيته.
يرى برغسون أنه كي تتساوى الحياة بالفن يجب أن تكون هناك جمالية للضحك، ولا يتحقق هذا بسهولة، بالنظر إلى أن الجمال نقي في معظم الفنون، بمعنى أنه خالٍ من الاعتبارات الأخلاقية، فيما تتدفق الحياة وتسير مرهونة بالزمن وعنفوانه المستمر بشكل دائم، حيث يولد تواجد البشر فيما بينهم تجاذبات وتنافرات وانشقاقات عميقة في التوازن، ويولد الشغف كذلك، وحين يستسلم الإنسان لحركة طبيعته الحساسة، مع انعدام القانون الاجتماعي والأخلاقي، تصبح انفجارات المشاعر العنيفة شيئًا معتادًا في الحياة. وقد تكونت تحت تأثير الواجب وما يأمر به العقل طبقة سطحية من الأحاسيس والأفكار نزعت إلى الجمود، وأرادت أن تكون مشتركة بين كل الناس، فحجبت في غياب قدرتها على إخماد النار الداخلية للأهواء الفردية. وتقدم الدراما للبشر لذة من نوع خاص، إذ خلف الحياة الهانئة البورجوازية التي شكلها لنا العقل والمجتمع، فإنها تحرك فينا شيئًا لا ينفجر لحسن الحظ، لكنه يشعرنا بالتوتر الداخلي، حيث تعطي الدراما للطبيعة الفرصة لكي تنتقم من المجتمع، لأنها تنادي من الأعماق إلى السطح الأهواء التي تفجّر كل شيء، كما أنها تكشف لنا بحنكة بارعة تناقضات المجتمع مع نفسه، وتبالغ في ما هو مفتعل في القانون الاجتماعي، فتجعلنا نلمس الأشياء بعمق، وتمكننا من اكتشاف الجزء الخفي من ذواتنا، حيث يتكون لدينا هذا الانطباع عند الخروج من مشاهدة عرض درامي ناجح.