فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن قائد الأركان في كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” محمد الضيف، بدء عملية “طوفان الأقصى”، وقال في رسالة صوتية مسجلة: “اليوم هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء الاحتلال الأخير على سطح الأرض”.
وما بدأ كمعركة لتحرير فلسطين، انتهى مرحليا بهدنة مؤقتة وتبادل أسرى وإدخال مساعدات، وان كان اتفاق التهدئة، ينص على أن تفرج “حماس” في المرحلة الأولى عن نحو 50 امرأة وطفلا إسرائيليا، مقابل إطلاق إسرائيل سراح نحو 150 سجينا فلسطينيا، معظمهم من النساء والقصَّر، إلا أن عملية “طوفان الأقصى” تسببت أيضا في خسائر كبيرة جدا للفلسطينيين وخصوصا في غزة، أكثر من 14800 ضحية، بينهم أكثر من 6000 طفل، و4000 امرأة، وأكثر من 7000 مفقود جلهم تحت الأنقاض، ودمار شبه كامل في غزة، وأكثر من مليون ونصف المليون نازح، وعودة قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى القطاع بعد انسحابها منه في عام 2005.
من حق البعض أن يرى أن ما حصل هو انتصار للقضية الفلسطينية، عازين الأمر إلى أن ثمن الحرية يكون في كثير من الأحيان غاليا، ولكن أيضا من حق البعض الآخر أن يتساءل عن ثمن هذا النصر المزعوم من دون أن يتم وصمه بالتخاذل أو الخيانة، فما هي نقطة النصر التي يجب أن نحتفي بها تحديدا؟ هل هي تحرير معتقلين من السجون الإسرائيلية؟ بالطبع يستحق هؤلاء الحرية والتحرير، لأن لهم حقوقا يجب أن تصان، ولأن احتجازهم أصلا كان جريمة من جرائم الاحتلال. لكن أيضا في المقابل كما أن حق الحرية مقدس يجب أن لا يمس، كذلك الحق في الحياة مقدس ويجب أن لا يمس؛ فتعريض حياة أهل غزة للموت المحتم هو انتهاك لحقوق هؤلاء البشر وإهدار لحياتهم. لقد سبق وتمت عشرات عمليات تبادل الأسرى بين الفلسطينيين والإسرائيلين في السابق، وحتى بين إسرائيل و”حماس”، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في غزة يحيى السنوار نفسه كان قد خرج بصفقة تبادل بين الحركة وإسرائيل، دون أن ينتج عن صفقات التبادل تلك ما نتج اليوم عن “طوفان الأقصى”.
وإن كان لا يصح القول إن ما حققته عملية “طوفان الأقصى” هو فقط تبادل أسرى ودخول مساعدات كانت تدخل أساسا قبل العملية العسكرية والحرب الهمجية التي شنتها إسرائيل على القطاع، لكن القول إن القضية الفلسطينية انتصرت هو أيضا قول قاصر.
من يتابع خطابات قادة “حماس” في الداخل والخارج منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى اليوم، يلاحظ كمية التناقضات في أغلب ما يقولونه، ما عدا ثابتين اثنين، الأول هو العلاقة مع إيران التي لم تتأثر رغم ما حكي عن خذلان “محور الممانعة” بقيادة طهران لـ”حماس”، ورفضها الدخول في أي حرب لأجل فلسطين، والثاني هو الحديث المستمر عن “حماس” نفسها لا عن فلسطين القضية ولا عن الفلسطينيين.
رئيس حركة “حماس” في الخارج، خالد مشعل، وبعد كل ما حصل في قطاع غزة يقول في كلمة ألقاها عبر الإنترنت في افتتاح المنتدى الإسلامي العالمي للبرلمانيين في إسطنبول: “المقاومة بخير. نعم هناك شهداء من المقاتلين والقيادات والإدارات، وبعض القيادات العسكرية، ولكن ليس من الصف الأول. رغم كل ذلك المقاومة بخير، أسلحتها وأنفاقها وقيادتها سليمة”.
وصحيح أن الميثاق التأسيسي لحركة “حماس” يرفض التنازل عن شبر من أرض فلسطين التي يعتبرها وقفا إسلاميا، إلا أن إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة، أكد أثناء المعركة أن “حماس” تقبل بحل الدولتين، ليأتي بعدها تصريح القيادي في الحركة والمقيم في لبنان أسامة حمدان في حديث تلفزيوني بأن الإسرائيلي لن يستطيع بعد الحرب التفاوض “إلا مع حماس”.
ذكرت قبل أسابيع على صفحات “المجلة” أن إيران تريد أن تجلس هي إلى طاولة المفاوضات، وها هي “حماس” تؤكد ذلك، فالحركة التي أصرت على التنسيق مع إيران في كل خطوة من خطواتها رغم خذلان إيران لها، لم يخل خطاب أي من قادتها من توجيه الشكر لإيران وميليشياتها، ولم نسمع منهم شكرا ولو على واجب للدول العربية، الدول التي استنفرت حسب استطاعتها لوقف العدوان على غزة ولإرسال المساعدات وعلاج الجرحى والوصول إلى الهدنة أو التهدئة.
لم يخذل أحد “حماس”، فـ”حماس” منذ اللحظة الأولى مشروعها هو “حماس”، مشروع الإخوان المسلمين في كل مكان وزمان، فلسطين ليست سوى ذريعة، فالإخوان لا يؤمنون بالدولة بمفهومها الحديث بل بالأمة، ألم يقل يوما المرشد الأسبق للإخوان مصطفى مشهور: “تفتيت الأوطان لتجميع الإمبراطورية”، والعلاقة بين الإخوان وإيران الإسلامية تعود إلى ما قبل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في عام 1979، فحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان بدأ لقاءاته مع روح الله موسوي، وهو الإمام الخميني، في عام 1938 في القاهرة، وقد سبق وأجاب المرشد الحالي علي خامنئي عن سر العلاقة بين نظام الملالي والإخوان رغم اختلاف المذاهب بالقول: “نحن نؤمن بزواج المتعة”.
ما يجمع الطرفين هو مشروع “تفتيت الأوطان” لإقامة الإمبراطورية، حينها قد يختلفان من سيكون الخليفة، المرشد الأعلى أم مرشد الجماعة؟ وإن كان طموح إيران أقل سذاجة، إلا أن ما يجمع الطرفين اليوم أكثر بكثير مما يفرقهما، وفي كلتا الحالتين فلسطين وسيلة وليست الغاية.