حدّد الاجتماع العربي في القاهرة موقفاً رافضاً المسّ بحقوق الفلسطينيين “من خلال الأنشطة الاستيطانية، أو الطرد وهدم المنازل، أو ضمّ الأرض”، أو من خلال “التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم بأي صورة من الصور أو تحت أي ظروف ومبررات”. ويشمل هذا الموقف سكان الضفة الغربية وقطاع غزّة المهدّدين بالتهجير على قاعدة أن بيوتهم مرشّحة للهدم وأرضهم آيلة للدمار، وبالتالي فإن مصير “حقوقهم” بعد “النكبة الثانية” الجارية الآن لن يكون أفضل من مصير حقوق آبائهم بعد النكبة الأولى قبل 77 عاماً. فقد استطاعت إسرائيل سابقاً أن تفلت من أي عقاب، وبلغت في الشهور الخمس عشرة الأخيرة حدّاً غير مسبوق من احتقار القوانين الدولية، محافظةً على تمتّعها بحصانة داست فيها الولايات المتحدة والدول الغربية كلّ القوانين التي وضعتها، وكلّ الأعراف والمبادئ، لحماية وحشيتها ومنع تعريضها لأي مساءلة أو محاسبة.
سيتضح بعد اللقاء الوشيك بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، كأول زائر خارجي للبيت الأبيض، ما إذا كان الرئيس الأميركي سيأخذ في الاعتبار هذا الموقف العربي، طالما أنه مبدئي وغير صدامي، كما أنه يبدي استعداداً “للعمل مع إدارة ترامب” من أجل “تنفيذ حلّ الدولتين”. لكن ترامب كرّر مرتين خلال الأسبوع المنصرم “نفعل الكثير من أجلهم، وهم سيفعلون ذلك”، عندما سئل إذا كانت مصر والأردن ستوافقان على استقبال المهجّرين من غزّة، على رغم أن القاهرة وعمّان جاهرتا بالرفض. ولا يعني ردّه سوى أن المسألة في بدايتها، وأن السرعة التي يتخذ بها قراراته أو يطلق تصريحاته لا تنطبق على غزّة حيث لا يزال هناك رهائن تجب استعادتهم من “حماس”، و سيكون له كلام آخر عندما ينتهي مسار التبادل هذا، لكن كيف سينتهي؟ وهل أن ترامب أو ادارته لديهما تصوّر لـ”اليوم التالي” في غزّة يلتقي مع التصوّر العربي، أم يتماهى مع السيناريوهات التي وضعها متطرّفو حكومة إسرائيل؟ وكيف يمكن ترامب ونتنياهو تركيب التهجير مع التطبيع؟
في الأثناء كان مايك هاكابي، مرشح ترامب لمنصب السفير الأميركي في إسرائيل، أدلى في مقابلة تلفزيونية بآراء ليس أقلّها أن إقامة دولة فلسطينية “لم يعد حلّاً قابلاً للتطبيق”، لكن أكثرها غرابة أن “على إيران وحماس تخصيص الأموال لجهود إعادة الاعمار، كما وفّرتا الموارد اللازمة للاستثمار في الأسلحة والأنفاق تحت الأرض”. لا يبدو هذا السفير على يمين ترامب فحسب، بل انه نسخة أكثر صهيونية من سلفه ديفيد ملخ فريدمان، سفير المستوطنين وأحد المساهمين في صوغ “صفقة القرن” الى جانب نتنياهو وجاريد كوشنر. ومع هاكابي سفيراً، والمطوّر العقاري ستيف ويتكوف مبعوثاً خاصّاً، وبتسلئيل سموتريتش زعيم حزب “الصهيونية الدينية” كرأس حربة لخطط تهجير الفلسطينيين وضمّ غزة والضفة، وفي غياب أي زعيم إسرائيلي عقلاني غير متطرّف أو أي مسؤول في الإدارة الأميركية قادر على اسماع الرئيس أي رأي آخر، فإن ترامب سيزداد اقتناعاً بأن الله أنقذه ليس لـ”جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى” فحسب، بل أيضاً لإعادة اختراع إسرائيل وتوسيع مساحتها.
الأسابيع القليلة الحالية مرحلة خطيرة يُفترض أن تحدّد ما إذا كان وقف النار في غزّة نهاية للحرب وتمهيداً لتحديد الخيارات المقبلة. لكن إسرائيل رفضت دائماً البحث في “اليوم التالي”: أولاً، لأنه يوجب عليها قبول السلطة الفلسطينية في غزّة (بكفالة دولية- عربية) وهو ما ترفضه، كما ترفض “سلطة حماس” التي نظّمت استعراضات قوّة خلال تسليم الرهائن لتؤكّد سيطرتها. وثانياً، لأنه يعيد الاعتبار الى وكالة “الاونروا” ودورها “المحوري الذي لا يمكن الاستغناء عنه وغير القابل للاستبدال” (بيان اجتماع القاهرة)، في حين أن إسرائيل سنّت قانوناً يمنع “الأونروا” من العمل في كل الأراضي الفلسطينية، ويدعمها في ذلك أن إدارة ترامب الأولى اتخذت موقفاً عدائياً من الوكالة الأممية. وثالثاً، لأن ما بعد الحرب سيطرح بالضرورة مسألة إعادة الاعمار ومشاريعها، ومن هذه النقطة ينطلق ترامب لترويج خطط اسرائيل لاستيطان غزّة طارحاً خيار “نقل السكان الى بيوت تبنى لهم في مكان آخر”، أي من دون “حق العودة” هذه المرّة.
ترددت أخيراً تكهنات بأن ترامب ونتنياهو قد يختلفان حول خيارات استراتيجية، خلافاً للعادة. لكن ما يبديه الرئيس الجديد وفريقه ينسجم كلّياً مع أهداف إسرائيل، بل يذهب أبعد منها. إذا وُجد خلاف فسيكون على التعامل مع إيران: ترامب يريد اتفاقاً جديداً بشروط أميركية، أما نتنياهو فيسعى الى التعجيل في ضرب المنشآت النووية. أما الخلاف على المرحلة الثانية من اتفاق غزّة، إذا رفض ترامب استئناف الحرب، فقد يؤدّي الى إسقاط حكومة نتنياهو والذهاب الى انتخابات جديدة، وإلى تمييع “اليوم التالي” وانضاج سيناريوهات التهجير.