كانت سنة 2024 استثنائية بالنسبة للسينما الفرنسية مقارنة بالسينما الأميركية التي تحظى في العادة بأكبر حصة في سوق العرض في فرنسا، فمن أصل أكثر من 181 مليون تذكرة مباعة حصدت وحدها أكثر من 80 مليونًا، بحصة 44 في المائة في السوق (الأميركية 36 في المائة). ولعل تنوع الأفلام المعروضة يفسر انتعاش الإقبال العام على هذه السينما، لا سيما إذا ما قورن مع بلدان مماثلة مثل الولايات المتحدة وأوروبا لم تستعد بعد عافيتها عقب أزمة كوفيد.

تواجدت في ترشيحات جائزة سيزار لهذا العام كل الأنواع السينمائية، من دراما تاريخية وقصص معاصرة وكوميديا موسيقية واجتماعية في الفيلم الروائي، من دون إغفال صعود الفيلم الوثائقي والمتحرك. وقد كشفت ترشيحات أكاديمية الفنون وتقنيات السينما الأسبوع الماضي (29 كانون الثاني/ يناير) التي تمنح جوائز سيزار لأفضل الأفلام الفرنسية التي عرضت في عام 2024، عن حيوية السينما الفرنسية من جهة، وتنوعها من أخرى، وعن تلاقٍ في الأذواق بين الناخبين (نقاد وسينمائيين) في الأكاديمية، والجمهور، مع تواجد أفلام شعبية في المراكز الأولى؛ بدون أن يعني هذا بالتأكيد التخلي عن أفلام تنتمي لما يطلق عليه “فن وتجربة” وهي أفلام سينما المؤلف.

وضمن الأفلام التي حصلت على أكثر الترشيحات في مختلف الفئات، أتى “الكونت دو مونت كريستو” على رأس اللائحة مع 14 ترشيحًا منها الرئيسية كأفضل فيلم واخراج لألكسندر دو لاباتليير وماتيو دو لابورت، وتمثيل لبيير نيني. كان الإقبال على الفيلم تجاوز التسعة ملايين مشاهد، وهو رقم نادرًا ما تحظى به السينما الفرنسية وغالبًا ما يكون لإنتاج هوليوودي ضخم. والفيلم اقتباس جديد عن إحدى كلاسيكيات الأدب الفرنسي والتي تعتبر أشهر ما كتبه ألكسندر دوما الأبّ بعد “الفرسان الثلاثة”. ينتمي الفيلم، المنجز بإيقاع حثيث ومكثف، إلى عالم المغامرات والمعجزات التي تلقى دائمًا حماس الجمهور، والأهم أنه يتوغل عميقًا في فكرة المسامحة من عدمها وبين المغفرة والانتقام. وتدور أحداثه عام 1815، مع بداية عهد لويس الثامن عشر، حيث يقع ضابط بحري فرنسي شاب وشجاع في حبّ فتاة من عائلة نبيلة وغنية. علاقة تثير حسد البعض ورفضهم، فيتآمرون عليه مع زملاء له في البحرية ليسجن سنوات طويلة يقرر بعدها الانتقام.

 

أتى “الكونت دو مونت كريستو” على رأس اللائحة مع 14 ترشيحًا

واحتل فيلم جماهيري آخر كان حقق خمسة ملايين تذكرة مباعة، المركز الثاني مع 13 ترشيحًا للحصول على السيزار. مع “جنون الحبّ” لجيل لولوش، تعود السينما الفرنسية إلى قصص الحبّ الرقيقة التي تقف في وجهها مختلف العوائق. ويعتمد الفيلم على مقولة ما الحبّ إلا للحبيب الأولّ، في إخراج حساس متيقظ لكل ما يمكن أن يحيط بمشاعر شخصين (آديل إكزاروبولوس وفرانسوا سيفيل، والاثنان مرشحان لجائزة أفضل أداء نسائي ورجالي) لم يستطيعا الإفلات من سطوة الحبّ رغم مرور الزمن والأحداث المأساوية.

وجاء “إيميليا بيريز” لجاك أوديار في المركز الثالث في عدد الترشيحات، ولا سيما المهمة منها، كأفضل فيلم وإخراج مع 12 ترشيحًا. والفيلم الذي لم يحقق نجاحًا جماهيريًا يعادل الفيلمين الآخرين (أكثر من مليون تذكرة بقليل)، يحقق أرقامًا قياسية في مجالات أخرى، مثلًا وصول عدد ترشيحاته لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي إلى 13. وأوديار معتاد على الجوائز وأولها كانت في مهرجان كان 2024، مع جائزة لجنة التحكيم للفيلم والتمثيل لبطلاته الأربع، ومع جوائز الصحافة الأجنبية في فرنسا وأميركا. وهو إن ربح هذه المرة جائزة سيزار لأفضل فيلم فرنسي فستكون الثالثة له، والرابعة إن نال سيزار أفضل إخراج. الفيلم، الذي يمزج الأنواع السينمائية ليصل إلى خليط عجيب من الأحداث والشخصيات، يروي قصة رئيس عصابة مروّجي المخدرات في المكسيك يقرر التحول سرًا إلى امرأة ونسيان الماضي والتكفير عن ذنوبه الكثيرة والفظيعة ليصبح محبوبًا بعد أن كرهه الجميع. سلسلة من مغامرات متوقعة وغير متوقعة في فيلم يعتمد كوميديا موسيقية باللغة الإسبانية، وأثار كثيرًا من تعليقات وهجوم لا سيما في المكسيك حيث تدور أحداثه (لكنه صوّر في استديو في باريس). واعتبر محللون أن الفيلم يسخر من قضية خطيرة ويتعامل بأسلوب سطحي ومهين لآلاف المعذبين والمختفين بسبب جرائم الكارتل المكسيكية.

“كشفت ترشيحات أكاديمية الفنون وتقنيات السينما عن حيوية السينما الفرنسية من جهة، وتنوعها من أخرى، وعن تلاقٍ في الأذواق بين الناخبين (نقاد وسينمائيين) في الأكاديمية، والجمهور”

لكن أفلام فرنسية أخرى أقل إبهارًا لمخرجين أقل شهرة تمكنت من الوصول إلى لوائح الأفلام المرشحة لنيل السيزار، ومنها فيلم “حكاية سليمان” لبوريس لوتشين الذي نال 8 ترشيحات في عدة فئات. يلتقي في الفيلم النوع الروائي مع الوثائقي عبر يوميات مهاجر من غينيا يتحضر لمقابلة لجنة اللجوء للبتّ بأمره. وقد مسّت شخصية سليمان (آبو سنغاري) بصدقها وتعبيرها عن هذه الفئة وما يحيط بها من مصاعب لإثبات وجودها في بلد جديد، دون أن يبديها كشخصية مثالية بل واقعية، وقد استوحاها المخرج من قصة آبو الذي قام بالدور، ورشح لجائزة أفضل اكتشاف ولكن يبدو أنه لا يريد الاستمرار في السينما وإنما يريد العمل ميكانيكًا. وبعد أن أثارت قضيته الرأي العام قُبل طلبه باللجوء بعد رفض سابق. تميّز الفيلم بصدقه وواقعيته وإيقاعه السريع وشخصياته الحقيقية التي تتجاذبها مشاعر شتى متناقضة تفضي بها إلى الكذب أحيانًا بهدف الاستقرار في بلد يؤمن لها عيشًا مقبولًا.

جاء في المركز الخامس “رحمة” لآلان غيرودي مع ثمانية ترشيحات، وهو فيلم بوليسي عن شخصيات غامضة وأجواء غريبة لشاب يعود إلى قرية عمل فيها سابقًا ليعود الماضي بخفاياه. وشكّل فيلم “الجوقة” لايمانويل كوركول في المركز السادس، اكتشافًا لأكثر من مليونين ونصف المليون من الفرنسيين. فيلم مليء بالأحاسيس الرقيقة حول العلاقة بين أخوين اكتشفا أخوتهما متأخرًا بسبب مرض أحدهما، كل شيء كان يفصل بينهما ظاهريًا إلا حبهما للموسيقى، عاشا في وسط اجتماعي مختلف ليقرر الأخ الأكبر مهمة إصلاح ظلم الأقدار. فيلم غاية في الرقة حول التضحية والحب والإصرار والعزيمة والأمل وعدم التخلي أمام مشاكل الحياة. وكل هذا على أنغام الموسيقى الكلاسيكية التي يعزفها الأخ الأكبر والشعبية التي يعزفها الأخ الأصغر. مسّ الفيلم قلوب الفرنسيين في أسابيع قليلة وما زال يجذب المزيد منهم إلى الصالات. وقد نال سبعة ترشيحات منها أفضل فيلم وأفضل ممثل رئيسي (فرانسوا سيفيل) وممثلة دور ثانوي.

 

من الممثلين المرشحين أيضًا، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، طاهر رحيم في فئة أفضل ممثل عن دوره الرائع في فيلم “ألسيد أزنافور” لمهدي إدير وفابيان مارسو، الذي يتابع سيرة حياة المطرب الشهير شارل أزنافور، ومع أن هذا الفيلم حظي بإقبال جماهيري تجاوز المليونين فلم يرشح سوى لأربع جوائز في الديكور والأزياء والمؤثرات البصرية.

كما تم ترشيح الممثلة حفصية حرزي عن دورها في فيلم “بورغو” لستيفان دومورستييه.

وفي فئة أفضل فيلم أجنبي يحضر الفيلم الإيراني “بذرة التين المقدسة” لمحمد رسول أف و”أنورا” والفيلمان فازا في مهرجان كان بجائزة التحكيم وبالسعفة الذهبية على التوالي.

ويلاحظ غياب المخرجات عن فئات مهمة في الترشيحات الرئيسية، إنما حضرت اثنتان في فئة أفضل فيلم أول الذي يبدي حقًا حيوية السينما الفرنسية وقدرتها على تقديم أصوات جديدة، فجاء فيلم لويز كورفوازييه “يا للآلهة” عن مجتمع الريف المليء بالبهجة والقسوة أيضًا، وفيلم “ماس خام” لآغات رايدينغر عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياة المراهقات.

كما لوحظ غياب اسم المخرج كونتان ديبيو عن اللائحة، وكان شارك فيلمه “الفصل الخامس” في افتتاح مهرجان كان 2024 وقد فرض نفسه مع 14 فيلمًا في 18 عامًا كمرجع لسينما العبث الفكاهي في فرنسا.

يُذكر أن النتائج النهائية لجوائز سيزار ستعلن في حفل يُقام في 28 شباط/ فبراير الحالي.

 

شارك هذا المقال