كان فحوى الإرهاب الفكري الذي مارستْه قوى غربية مسيطرة أن اللحظة هي لمحاسبة “إرهابيي حماس” ردّاً على عملية “طوفان الأقصى”، أما قول كلام آخر متصل بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أو بغزة تحديداً، فيمكن “أو يجب” تأجيله إلى ما بعد الانتهاء من خطر وجود حماس. هناك ميل عربي مشابه، بأدوات مختلفة، تسعى فيه الأغلبية المساندة للقضية الفلسطينية إلى التركيز عليها، وتأجيل أي قول نقدي إزاء حماس إلى ما بعد انتهاء المعركة الحالية. بينما تسعى شريحة أضيق إلى التركيز على المعركة نفسها، وردّ الفعل الإسرائيلي الذي تسببت به عملية حماس، وتأجيل أي قول نقدي إزاء إسرائيل، ولو بذريعة أنه نافل وأننا نعرف عدوانية إسرائيل جيداً وهو ما كان يتعيّن على حماس أخذه في الحسبان.

الرأي العام الغربي لم يكن موحّداً إزاء الصراع، وستعود التمايزات للظهور كلما أوغلت إسرائيل في المجزرة. ورغم التأثيرين العاطفي والأيديولوجي، يصعب الزعم بأن وحدة العرب تجاه القضية الفلسطينية شأن مفروغ منه، فهناك على سبيل المثال لا الحصر افتراق في الآراء حول حماس وهو ليس بلا تأثير. إلا أن ما يوحّد بين المختلفين العرب هي تلك الفكرة التي في مرتبة البديهيات، ومفادها أنهم جميعاً يعرفون القضية الفلسطينية، بل هناك من يتململ من أي حديث عنها لكونه لن يأتي بجديد إطلاقاً.

بالطبع ليس عيباً ألا يعرف أي شخص القضية الفلسطينية معرفة جيدة أو سطحية حتى، بشرط ألا يزعم غير ذلك وهو يتحدث فيها. ويمكن القول أن العرب بنسبة ساحقة يعرفون فلسطين، لكن كما بيّنت الأحداث الأخيرة لا يعرفون غزة، ونجزم “من دون معركة مماثلة” أننا لا نعرف الضفة، ولا القدس…! ما نعرفه حقاً ليست فلسطين، ولا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ نحن نعرف فكرة فلسطين، نعرف عموميات القضية كما نقلتها لنا أيديولوجيات مختلفة. يعمّق من ذلك أولئك الذين يرون أنهم بغنى عن معرفة التفاصيل بما أنهم على دراية بجذر القضية، وبما أن التفاصيل “وفق تصوراتهم” ليست بذات قيمة.

هذا الوهم يتضافر مع الإرهاب الفكري الذي يُعلي من صوت المعركة، لأسباب تتباين حسب ممارسيه، وهكذا تفقد المعركة جانباً مهماً من جوانبها بوصفها كشّافاً قوياً واستثنائياً على ما وصل إليه الصراع ذاته، بصرف النظر مؤقتاً عن خطأ إشعالها أو صوابه. ما يقوله الوهم والجهل معاً أن وقت المعركة لا يصلح للتفكير الهادئ أو النقدي، وما يحدث دائماً أن المعرفة والتفكير الهادئ المستبعدَيْن أثناء المعركة لن يحضرا لاحقاً، في انتظار جولة مقبلة من العنف يُستنكف فيها عن المعرفة أيضاً تحت وهم امتلاكها!

لقد أضرّ بالقضية نفسها اعتبارُ القضية الفلسطينية قضيةَ العرب التي لا نقاش فيها، لأن التضامن مع أصحابها راح يتراجع بقدر ما تراجعت أيديولوجيا العروبة. ثم لم يتأخر الإسلاميون في جلب المزيد من العداء والخصوم للقضية، مع مساهمة متواضعة من أفراد وجدوا ضالتهم في استلهام مقولات اليمين الغربي.

على العموم، هي وصفة مجرَّبة أن يأتي تقديس قضية بالجهل بها، ثم بأولئك الناقمين على فكرة التقديس. ومما يجب أن يستوقف كثر من أصحاب الرأي، في الإعلام وعلى وسائل التواصل، أصوات بعض الإسرائيليين التي خالفت موجة العداء الأعمى الحالية، ومنها على سبيل المثال جدعون ليفي الذي نشر في هآرتس العديد من المقالات التي تشرح خلفيات المعركة الحالية، وتدين الحصار الإسرائيلي الخانق على غزة ومجمل الانتهاكات الأخرى. في هذه الأمثلة أيضاً، من المستحسن الكفّ عن الإشادة بشجاعة بعض الإسرائيليين الذين يخالفون غالبية عنصرية في مجتمعهم، فالأمر لا يتعلق بالشجاعة فحسب، وإنما بالمعرفة التي تُبنى عليها الشجاعة والمعلومات التي يقدّمونها دعماً لآرائهم.

بخلاف ما يريد غرباً وشرقاً أصحابُ مقولة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، يقترح جدعون ليفي وقلّة من أمثاله “عالمياً وعربياً” معرفةَ الأسباب والوقائع التي أتت بالمعركة، وإذا كانت الأولوية لإيقاف القتال فإن إنهاء المعركة حقاً يكون بالعمل على إنهاء أسبابها. العودة إلى الأسباب، بهذا المعنى، ليست عودة إلى بديهيات معروفة إلى درجة التململ من تكرارها، بل هي تذكير بما لا تعرفه نسبة عظمى غير متابعة للشأن الفلسطيني، ما يجعل النسبة ذاتها غير مؤهّلة للتفكير في حلول واقعية وحقيقية، وما يجعلها غير مؤهّلة لتكون صاحبة رأي عام خارج ما هو عاطفي أو أخلاقي بدرجة أقل.

الدارج عموماً أن أصحاب “لا صوت يعلو على صوت المعركة” يبتغون بمقولتهم إسكات الأصوات المعارِضة، إلا أن الأقرب إلى الواقع في حالتنا هذه أنهم لا يريدون أن تكون المعركة مناسبة للتعلّم، ولهذا ينبغي أن تقتصر المعلومة على وقائع مثل تفاصيل الهجوم والهجوم مضاد، ولا بأس حتى في الحديث عن ردّ فعل وحشي أو “غير متناسب” إذا كان يخدم على صعيد الردع. أي أن المطلوب، وما يتحقق بنسبة كبيرة، أن يكون القول العام أشبه بالثرثرة على هامش المجزرة.

إن إفراغ المعركة من المعنى يصبح هدفاً كي لا تحقق أدنى مكسب، ولو من نوع فكّ تدريجي للحصار المضروب على غزة منذ 16 عاماً، وهو ليس بالخسارة لأيّ من طرفيها. ولئن كان واحد من تعاريف الحرب أنها استئناف للسياسة “أو توسّل لها” بالعنف فإن إغراق هذا المعنى بالثرثرة طريقة جيدة لتسطيح مفهوم الحرب، كي يستخلص الطرف المستضعف أنه لن يحقق من خلالها ما لم يُتح له سلْماً.

مصيبة النقاش العربي، ضد أو مع حماس، هي في افتقاره إلى المعرفة بالوضع الفلسطيني وزعم امتلاكها معاً، ما ينطوي على رفض مبدأ التعرف على القضية التي تغيّر فيها الكثير، على الأقل منذ اتفاقية أوسلو وملاحقها. أي أن مشكلته ليست في تعدد الآراء، التعدد الذي ينبغي احترامه مع الحرص على تحلّيه بالمعرفة التي من دونها يصعب الحديث عن رحابة فكرية وأفق إنساني وهما ما نحتاجه في قضايا المنطقة الأخرى، وهما أيضاً ما يجدر التمسك به عندما تضغط قوى غربية لتفريغ مجتمعاتها من أفضل قيَمها. وفيما سبق كله، أهملنا الأسوأ الذي يحوّل جثة الفلسطيني إلى صندوق رسائل، يستخدمه بلا رأفة أصحاب الرأي الذين يتعمدون الاستنكاف عن المعرفة، ويتشفّون بالثرثرة إلى جوار جثث الضحايا.