يستمع القادم من بعيد إلى دمشق، في كل مكان، إلى أصوات سورية الجديدة، تعلن فرادى ومجتمعة ولادةً جديدة لهذا الشعب العنيد، الذي ضحّى وصبر على الجوع والتمييز والتهجير، وسلك كل الدروب، برّاً وبحراً وجواً، هرباً من حرب إبادة، تعدّدت أساليبها وأدواتها، وكادت تنجح في تغيير تركيبة سورية، وربطها بإيران طائفياً، أمنياً، اقتصادياً، وسياسياً.
الحديث بصوتٍ عال والنقد لا يفسدان فرح الحرية من نظام الطغيان، ونهاية المشروع الإيراني. ومن يجالس السوريين الذين لم يغادروا البلد، ودخل بعضُهم السجون، يسمع منهم ملاحظاتٍ كثيرة على خطوات التحول. وهي ليست على موجةٍ واحدة، بعضها وجيهٌ وحريصٌ على نجاح التجربة، وآخر متسرّع، لا يأتي من دراسة المعطيات. وبين هذه وتلك، هناك من يحاول أن يشكّك بكل ما جاء بعد سقوط النظام السابق، ولا يحتاج المراقب إلى عناءٍ ليفهم من أي مكانٍ تنطلق سهام هذا النوع من النقد، الذي يتلطّى وراء الموضوعية، وذلك النابع عن حرص بعدم التفريط بالانتصار.
وهناك إجماعٌ على أن العهد الجديد لن يستقيم أو يستقرّ على قاعدة صلبة إلا بإطلاق الحريات، وسماع المسؤولين الشكاوى الكثيرة عن التجاوزات. وثمّة نشاط ملحوظ من داخل سورية في متابعة لأخبار التعدّيات، في بعض المناطق المختلطة طائفياً، مثل حمص، التي تعدّ حالة خاصة بين المدن السورية، ففيها حدثت أكبر نسبة من أعمال القتل والتسريحات من الوظائف، ولا تزال بعض دوائر الدولة مغلقة بسبب ذلك، أو نتيجة مخاوف من تداعيات الانفلات في بعض الأرياف.
إجماعٌ على أن العهد الجديد لن يستقيم أو يستقرّ على قاعدة صلبة إلا بإطلاق الحريات، وسماع المسؤولين الشكاوى الكثيرة عن التجاوزات
في نظر أكثر المتفهمين ما يحصل من تجاوزات، أن سورية تعيش نتائج الوضع السابق الذي راكم قدرا هائلا من العداوات بين السوريين. وعلى هذا، هناك من يستسهل عملية الثأر أو تحصيل حق ضائع، وهذا أمر تتحمّل مسؤوليته الدولة، التي تحتاج وقتاً كي تبسط سلطتها، كما أنه يرتبط بإقرار مبدأ العدالة الانتقالية وتفعيله بسرعة، لما له من تأثير كبير على محاسبة العهد السابق، والحفاظ على السلم الأهلي وتحقيق الاستقرار.
لا يقف النقد عند توجيه الأصابع نحو ما يصدُر من تصرّفات غير مدروسة، أو حصول أعمالٍ لا تجد تفسيراً، وهي نابعة من استغلال ثغراتٍ في بعض الإجراءات. وهناك ملاحظتان مهمتان توجّهان إلى السلطات الجديدة. الأولى أن الغالبية العظمى من التعيينات في وظائف مؤسّسات الدولة من لون سياسي واحد، إما من هيئة تحرير الشام مباشرة، أو القريبين منها.
الملاحظة الثانية، ضعف خبرة لدى عديد ممن يديرون مؤسّسات الدولة، وينعكس ذلك في قرارات مرتجلة، ومن ذلك صدور قرار عن رئيس الوزراء محمد البشير بحل المؤتمر العام لاتحاد الصحافيين وتكليف مكتب مؤقت مكانه.
هذان مثالان، من بين أمثلة كثيرةٍ تدل على عدم دراسة القرارات جيداً، ورفض الاستعانة بمتخصّصين ومحترفين من خارج الأطراف التي أسقطت النظام، فقرار حل اتحاد الصحافيين يبدو عادياً من الناحية الشكلية، نظراً إلى العلاقة التي كانت بين مكتبه والنظام السابق، ولكنه من الناحية العملية تعبير عن توجّه إلى التدخل في عمل الصحافة، ومن بعدها الهيئات النقابية، التي يجب أن تكون مستقلة عن الدولة في المرحلة المقبلة.
وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بشهاداتٍ لكفاءاتٍ سورية قصدت دمشق من الخارج كي تضع خبرتها تحت تصرّف الإدارة الجديدة، لكنها لم تلق أي تجاوب، وقد برّر مسؤولون هذا الصدّ بأن مهمّة الأجهزة التي تقوم بتسيير المؤسسات حالياً تقتصر على تسلم الملفات من موظفي العهد القديم. ولذلك يجب عدم إصدار أحكام على رفض التواصل مع أصحاب الخبرة من المعارضين، الذين عاش بعضهم في المنفى، أو دخل سجون العهد الأسدي. وعلى هذا، يجب انتظار تشكيل الحكومة، التي ستقود الدولة في المرحلة الانتقالية.
رغم وجاهة هذا التبرير، إلا أنه لا يصمد كثيراً أمام مظاهر ولّدت انطباعات سلبية في الداخل والخارج، منها إهمال الحقل الثقافي كليّاً، حيث لم تعيّن الإدارة الجديدة وزيراً للثقافة، ويبدو أن هذا نابع من عدم وجود وزارة أو دائرة ثقافية في حكومة الإنقاذ في إدلب، لكن ذلك لا يعفي من تكليف شخصية ثقافية بإدارة الوزارة، التي تعد من الوزارات المهمة في سورية. وقد نُشر على وسائل التواصل أنه جرى تكليف الوزيرة السابقة ديالا بركات بتسيير شؤون الوزارة، ثم نفت وزارة الإعلام الخبر، قبل أن يثبت أنه صحيح، من دون أي إشارة إلى تفعيل عمل الوزارة، التي تترتب عليها مسؤوليات في تحريك الجو الثقافي، واستثمار موقع سورية الثقافي ومكانتها من أجل رفع العقوبات.
اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني السوري 13/2/2025 (سانا/إكس)
اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني السوري 13/2/2025 (سانا/إكس)
ثمّة من يعزو الارتجال وعدم المهنية في قراراتٍ عديدة إلى عدم تشكيل الحكومة التي ينتظر أن تكون تركيبتها من التكنوقراط، وأن أحد الأولويات لدى الإدارة الجديدة إيجاد حلول سريعة للمشكلات الاقتصادية الملحّة، من خلال تحديد رؤية متماسكة، ورسم خريطة طريق واضحة المعالم، ومن ذلك التحكّم بأسعار المواد الأولية، وتوفير الخبز والمحروقات، ووقف التذبذب في سعر صرف الليرة أمام الدولار. وما لم تنجح الحكومة في تقديم علاج سريع لهذه المسألة، سوف يخسر المواطن جزءا من مدّخراته بالعملة الصعبة، والمطلوب اتخاذ قراراتٍ تقود نحو تثبيت قيمة العملة الوطنية من دون أن يتحمّل المواطن الفاتورة.
من الاقتصاد إلى السياسة، ينتقل النقاش إلى مؤتمر الحوار الوطني، بعدما شكل رئيس الجمهورية أحمد الشرع اللجنة التحضيرية له. وقبل أن تنعقد الجلسات في المحافظات، ومن ثم المؤتمر العام في دمشق يومي 24 و25 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، هناك عدة آراء حول العملية. هناك من يعتبرها بداية جيدة على طريق تنفيذ الأجندة التي طرحها الشرع في خطابه بنهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وحدّدها بتشكيل حكومة انتقالية، ومجلس تشريعي، وإصدار إعلان دستوري. وهناك من شكّك بتمثيلية اللجنة، وخاصة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي قالت إنه جرى استثناؤها من الحوار، مع أنها تعارض الانخراط في الدولة الجديدة، وتضع شروطاً لذلك، يعدّها المسؤولون السوريون تعجيزية، وتحاول الحصول على مكاسب عبر الاستقواء بالخارج، بما في ذلك إسرائيل، وهو ما تنفيه “قسد”.
وحصلت اللجنة على قدر كبير من الانتقادات بسبب غياب المعايير في اختيار المشاركين، حيث اعتمدت لوائح من بين المعارضين المتوافرين في كل المناسبات، وأسقطت كثيرين من الشخصيات ذات التاريخ النضالي والكفاءة، كما أن توجيه الدعوات جرى على نحو سريع، ولم يترك مهلة كافية للوصول إلى العاصمة، خاصّة للمقيمين خارج سورية.
لا ينتهي الحديث في جلسات الصحافيين والسياسيين والمثقفين في دمشق. هناك جوع للكلام، تحرّرت الألسن من عقدة الخوف المزمن، ولم تعد هناك رقابة على الرأي المخالف، الذي كان يُلحِق بصاحبه ضرراً كبيراً. ومهما يكن من أمر، لا يمكن اختصار الوضع بالحوارات التي تدور، سواء على شاشات التلفزيونات التي استقرّت في ساحة الأمويين، أو في المقاهي.
تتفاوت داخل الفنادق الخدمات حسب التصنيف، وتبقى الكهرباء والماء الساخن والإنترنت الأكثر إلحاحاً. ولا يختلف الوضع عن ذلك في المنازل، بين فئات محدودة ذات دخل جيد يمكنها من دفع مقابل خدمات جيدة، والغالبية العظمى التي تجد صعوبة كبيرة في شراء المحروقات للتدفئة، وتقتصد في استهلاك الخبز، ربطة بدلاً من اثنتين في اليوم، أي أنها تحاول توفير 50%.
إذا لم يخرج الزائر من وسط دمشق ويعاين الوضع على الأرض، لن يستوعب حجم الدمار الذي لحق بالبلد، والفقر الذي يعيشه السوريون، وصعوبة إعادة الإعمار وإطلاق الحياة الاقتصادية من جديد. حياة الفندق، وجلسات المقاهي ومتابعة قنوات التلفزة، وزيارة مكاتب مسؤولي الإدارة الجديدة، وضاحية دمّر السكنية الراقية تقدم صورة خادعة، لا بد من الذهاب إلى ريف دمشق الذي دفع الثمن الأكبر في الثورة.
ليست زيارة داريا والهامة والمعظمية ومخيم اليرموك سهلة جداً، وتحتاج إلى خطة، فهذه المناطق شهدت قتالاً استمرّ أعواماً، وبعضها بات غير صالح للسكن، ويحتاج إعادة إعمار من الصفر، وهذا ما يؤخّر عودة آلاف من اللاجئين في الخارج، وحتى الذين يعيشون في مخيّمات في محافظتي إدلب وحلب يعدّون حياة المخيمات أقل صعوبة من العودة إلى منازل مدمّرة تفتقر لكل الخدمات الأولية.
إذا لم يخرج الزائر من وسط دمشق ويعاين الوضع على الأرض، لن يستوعب حجم الدمار الذي لحق بسورية
الملاحظة من زيارة داريا، دوما، وحرستا في ريف دمشق، أن الحديث عن الدمار لا ينقل الصورة الكاملة عن الكارثة، مهما امتلك من أدوات تعبير، وينطبق عليه قولٌ واحدٌ أنه يفوق الوصف. ولذا أمام النهوض بمهمّة إعادة البناء، تسهل كل المهمات الأخرى. عمل شاق يواجه المسؤولين عن رفع آثار الدمار وتعمير عشرات آلاف البيوت التي جرى تدميرها وتهجير أهلها.
شاهدتُ أفلاماً كثيرة عن الحروب، وغطّيت عدة حروب، وعشتُ جانباً من الحروب في لبنان، ولكني لم أشهد دماراً كالذي عاينته اليوم في المدن الثلاث، ولدي انطباع بأن الكاميرا مقصّرة في نقل الصورة الحقيقية لما حلّ بريف دمشق.
الحكومة المفترض أن ترى النور في شهر مارس/آذار الحالي، محلّ رهان السوريين قاطبة، فنجاحها في مصلحة البلد، وفشلها ينعكس على حاضر البلد ومستقبله. ولذلك يُنتظر منها أن تكون، قبل كل شيء، تمثيلية وفق المفاهيم التشاركية والتنوّع، التي تحدّث عنها عديدون من مسؤولي العهد الجديد. أن تتجنّب المحاصصة، واللون الواحد، وتضم كفاءات تمتلك رؤىً لحل المشكلات والنهوض بسورية.