بين 27 نوفمبر/ تشرين الثاني و8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أطاح هجوم الثوار السوريين نظام بشار الأسد، الذي كان يزعم أنه ربح الحرب قبل ست سنوات. وقد كشف سقوط النظام السوري عن تحوّل عميق في السياسة الجغرافية للمنطقة. خرجت تركيا من هذه التحولات ظافرة، لكنها تواجه في الوقت نفسه تحديات من نوع جديد. سلّط سقوط النظام السوري، الذي سماه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “الثورة العظيمة”، الضوء على واقع جيوسياسي جديد في منطقة الشرق الأوسط، تأثر بالعديد من الأزمات، من حربي أوكرانيا وغزة، ناهيك عن تداعياتهما الإقليمية (خصوصاً في لبنان). ولم تبق تركيا ساكنة إزاء هذه التحولات الديبلوماسية والعسكرية في المنطقة، فابتداءً من 2023، أعادت أنقرة علاقاتها مع النظام السوري، بشكل لقاءات غير رسمية، راضخة لضغوطات شريكيها الروسي والإيراني وفقاً لشروط عملية أستانة [[اتفاق أستانة هي معاهدة أبرمتها روسيا وإيران وتركيا في 4 مايو/أيار 2017 وتضمنت اتفاق وقف إطلاق النار في أربع مناطق تتحكم فيها المعارضة السورية. وإثر هذه العملية، لم تبق إلا محافظة إدلب مستقلة عن دمشق]]، وحتى لدول الخليج التي استجابت لعودة دمشق إلى جامعة الدول العربية.
خسارة إيران وروسيا
ولئن كانت السلطات التركية منخرطة في إدارة إدلب وفي تأسيس قيادة العمليات العسكرية (التي تحمل اسم “الفتح المبين”) التي بادرت بالهجوم في 27 نوفمبر 2024، فإنها حرصت على مراعاة حساسية موسكو وطهران من خلال سلسلة من اللقاءات المستمرة (بما في ذلك استقبال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في أنقرة في 2 ديسمبر 2024)، والتي واصلت خلالها حث بشار الأسد على التفاوض مع المعارضة وتشجيع انتقال سياسي. لكن عندما اجتمع الثلاثي في عملية أستانة في الدوحة في 7 ديسمبر 2024، لم يستطع الروس والإيرانيون، الذين ظلوا منذ 2019 يضغطون على تركيا للانسحاب من إدلب والأراضي السورية الأخرى التي كانت تحتلها، سوى الإقرار في النهاية بأنهم سيضطرون هم للانسحاب، وأنهم خسروا المعركة. وعلى الرغم من تمتعها بموقع قوة، لم تعد أنقرة وحدها في سورية، حيث توجد اليوم العديد من الأطراف الفاعلة. فقليلة هي البلدان التي تشهد في آن واحد وجوداً عسكرياً وسياسياً لأطراف متنوعة كالولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإسرائيل. وفي ظل هذه الظروف، بات من الضروري للنظام الجديد توضيح موقفه، ويمكن فهم ذلك من خلال الاتصالات والزيارات الرسمية الأولى لقادته – التي تشكل سياسته الخارجية يوماً بعد يوم.
أما في ما يتعلق بتركيا، فإن المكسب الجيوسياسي الرئيسي لـ”الثورة العظيمة” هو بالطبع الضربة القوية التي وُجهت للوجود الروسي والإيراني، الذي طالما أثار قلق أنقرة على حدودها الجنوبية خلال العقد الماضي. فمن المعروف أن موسكو نجحت في الحفاظ على العلاقات مع قادة دمشق الجدد، لكن الوفد الأول الذي أُرسل إلى العاصمة السورية في 30 يناير/كانون الثاني 2025 لم ينجح في ضمان استمرارية قواعد روسيا العسكرية في طرطوس وحميميم، إذ أشار السوريون مسبقاً إلى ضرورة إنشاء مسار عدالة انتقالية وطالبوا بتسليم بشار الأسد. بالتالي، تواجه موسكو خطر اضطرارها إلى نقل قواعدها العسكرية من شرق البحر المتوسط إلى ليبيا، وهو ما قد لا يخلو من عواقب بالنسبة لتركيا – الموجودة أيضاً في هذا البلد، ولكن لدعم أطراف سياسية أخرى. أما إيران، فيبدو أنها استُبعدت نهائياً من الأراضي السورية، علاوة على تعرّض سفارتها للنهب عند سقوط دمشق، إذ تم حظر استيراد منتجاتها إلى سورية، إلى جانب منتجات روسيا وإسرائيل.
لعبة معقدة مع السعودية
بعد مصالحته مع دول الخليج منذ عامين، صار أردوغان قادراً على تحقيق ما كان يحلم به في عام 2015، أي جعل سورية إقليماً حليفاً خالياً من إيران وحلفائها، وأداة للتقارب القوي مع العالم العربي، خصوصاً مع السعودية. في 2015، دعمت أنقرة علناً التدخل السعودي في اليمن، منددة بـ”إغراء الهيمنة الإقليمية” لإيران بل وحتى للشيعة. اعتقد الرئيس التركي أن دعم بلاده والسعودية للمعارضة السورية سيسمح للأخيرة بالانتصار، لكن مسار الأحداث أحبط خططه، مبعداً أنقرة عن الرياض، بينما اضطر في إطار عملية أستانة، أن يتقرّب حتى من طهران.
منذ ذلك الحين، عادت السعودية إلى المشهد السوري، مقدمة نفسها منافسا جدّيا لتركيا غير العربية، والتي ستُعتبر وريثة للسلطة العثمانية السابقة لو زاد تدخلها عن اللازم. وقبل سقوط بشار الأسد حتى، نجح السعوديون على عكس الأتراك في إعادة علاقاتهم الدبلوماسية مع الرئيس السوري السابق. صحيح أنهم لم يسارعوا إلى إعادة فتح سفارتهم في دمشق، مثل الأتراك وحلفائهم القطريين، لكنهم عملوا بفعالية على رفع العقوبات الدولية عن سورية، ويمكنهم أن يلعبوا دوراً مهماً في إعادة إعمار البلاد. وفي السياق نفسه، كانت الزيارة الرسمية الأولى خارج سورية للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، إلى السعودية.
الانفتاح على أوروبا
من جانبها، وفي الوقت الذي تعيد فيه تركيا إحياء ترشيحها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في وقت مفاوضات تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، لم تدخر أنقرة جهداً في إقناع الأخير بتسريع رفع عقوباته، وهو أمر ضروري لانتعاش اقتصادي حيوي لسورية. وفي 27 يناير 2025، ربط الاتحاد الأوروبي تعليق هذه العقوبات باحترام النظام الجديد لنمط حكم يحترم الأقليات وحقوق الإنسان. وعشية هذا القرار، توجهت الممثلة السامية الجديدة للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، كايا كالاس، إلى أنقرة، حيث شدّدت أيضاً على الأهمية الاستراتيجية للعلاقات التركية-الأوروبية. تستفيد تركيا إذاً من علاقتها مع الدول السبع والعشرين لتخفيف تحفظاتها تجاه أحمد الشرع، في وقت بدأ فيه التواصل بينه وبين كبار القادة الأوروبيين (دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس السوري إلى باريس، أول اتصال هاتفي بينه وبين المستشار أولاف شولتز…).
وخلال المحادثة الهاتفية التي أجراها مع نظيره الفرنسي في 7 فبراير 2025، رحّب أردوغان بالرفع التدريجي للعقوبات الأوروبية، وسط تصريحات تؤكد من جديد اهتمام تركيا الاستراتيجي بالمنطقة. من جهة أخرى، وفي سياق عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة في واشنطن والشكوك التي تصاحبها، تستحق بداية هذا التقارب التركي-الأوروبي أن يُسلّط عليها الضوء، خصوصاً أن الواقع الجيوسياسي الجديد في الشرق الأوسط، حتى وإن بدا في صالح تركيا، ليس خالياً من المخاطر ومن المجهول.
لكن القادة الأوروبيين لم يقرروا بعد الدور الذي ينوون تخصيصه لتركيا في هندسة درع الدفاع الأوروبي، المطروح حالياً للمناقشة، في ظل اتخاذ دونالد ترامب قرارات تزعزع حلف شمال الأطلسي (ناتو) يوماً بعد يوم. وبالتالي، من المتوقع أن تواصل أنقرة علاقاتها مع موسكو ومع الـ”بريكس” عموماً [[بريكس هي كتلة جيوسياسية دولية من تسع دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وإيران ومصر وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا. وتعتبر بديلاً للمؤسسات التي تهيمن عليها الدول الغربية ودول مجموعة الدول الصناعية السبع]]. وفي 24 فبراير/ شباط 2025، استقبل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان نظيره الروسي (سيرغي لافروف)، وذكّر بالتعقيدات التي صاحبت ترشيح تركيا نفسها لعضوية الاتحاد الأوروبي، وأكد مجدداً استعداد بلاده للانضمام إلى “بريكس”.
المسألة الكردية ومصير الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، هاجس تركي مستمر
يظل الموضوع الرئيسي الذي يثير قلق تركيا في التشكيل السوري الجديد هو المسألة الكردية، أو بالأحرى مصير الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية (روجافا) التي تشكلت في شمال شرق سورية منذ بداية الحرب الأهلية. وخلال الهجوم الذي شنه الثوار السابقون في أواخر عام 2024، أجبر الجيش الوطني السوري (تنظيم مقرب من الأتراك) المليشيات الكردية من وحدات حماية الشعب على التخلي عن محافظة منبج. وما فتئت وزارة الخارجية التركية بعدها تؤكد أنه من المستبعد أن ترى “روجافا” وضعها المؤسسي مكرّساً في سورية الجديدة، حيث يفكّر أردوغان حتى في عمليات عسكرية جديدة عبر الحدود إذا لزم الأمر. ومع ذلك، فإن مصير الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية لا يعتمد فقط على تركيا، بل على أطراف أخرى يمكن أن تتفق معهم تركيا أو تدخل في صراع، أولها بالطبع النظام السوري الجديد. فأثناء هجوم الثوار السابقين، لم تشارك جميع فصائل المعارضة عداء الجيش الوطني السوري تجاه الأكراد، بل سهّلت هيئة تحرير الشام إجلاءهم من حلب، واعترف الأكراد أصلاً بأنهم يواصلون الحوار مع المنظمة المهيمنة على قيادة العمليات العسكرية.
وقد قدّم النظام الجديد لاحقاً ضمانات لأنقرة، فخلال الزيارة التي قام بها إلى تركيا في الرابع من فبراير 2025، صرّح أحمد الشرع بأنه لن يكون هناك “تسامح مع المجموعات المسلحة، خصوصاً تلك التي تهدد تركيا” وأن بلاده ستتخذ “جميع التدابير لضمان أمن الحدود التركية”، مستهدفاً ضمنياً المليشيات الكردية، دون تسميتها. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه التطمينات المبدئية ستتبعها إجراءات فعلية، لأنه، في الوقت الذي يسعى فيه النظام الجديد إلى استقرار البلاد وتعزيز حكم يحترم الأقليات، سيتردد في الانخراط في صراع مع الأكراد.
بين واشنطن وتل أبيب
يعتمد مصير “روجافا” على أطراف أخرى، منها بالطبع الولايات المتحدة، والتي ما فتئت تركيا تطالبها بوقف الدعم العسكري والمالي الذي تقدمه للمليشيات الكردية في الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. وعلى الرغم من ترحيب أردوغان لاحقاً بفوز دونالد ترامب، معرباً عن اقتناعه بأنه سيشهد إعادة إطلاق مشروعه لسحب القوات الخاصة الأميركية الذي تم التخطيط له خلال ولايته الأولى (في عام 2019)، لم يتأكد هذا السيناريو بعد، وقد يتعارض مع وجود مستشارين مؤيدين للأكراد حول الرئيس الأميركي السابع والأربعين، خصوصاً مع رغبة واشنطن في الاحتفاظ بنقاط دعم في المناطق الكردية، سواء في العراق أو سورية، لا سيما لمكافحة تنظيم داعش الذي يعيد تشكيل نفسه، في وقت يبدو فيه أن مغادرة الأميركيين المُعلَنة من الشرق الأوسط قد تأجلت مرة أخرى.
من ناحية أخرى، يساهم تحول الوضع السوري في تقرّب تركيا جغرافياً وبشكل خطير من إسرائيل، التي استفادت أيضاً من سقوط بشار الأسد لتوسيع سيطرتها على الجولان المحتل. وقبل هذه الأحداث، وفي ذروة القصف الإسرائيلي الذي طاول لبنان (وكذلك سورية والعراق وإيران) في خريف 2024، كان أردوغان قد دق ناقوس الخطر بالفعل عندما صرّح بأن بلاده قد تكون “الهدف التالي لإسرائيل”. وكان هذا التصريح يهدف في الوقت نفسه إلى استغلال قلق المجتمع التركي الذي كان يخشى آنذاك أن يتحمّل عواقب هذا التصعيد، ولو بشكل غير مباشر (خصوصاً على مستوى الاقتصاد والهجرة).
وتعتبر إسرائيل من جهتها أن الوجود التركي في سورية “تهديد” لوجودها، بمستوى التهديد الذي كانت إيران تمثله لها [[“لجنة ناجيل تحذر من حرب محتملة مع تركيا وتدعو في نفس الوقت إلى مواجهة مع إيران”، “آل إسرائيل نيوز”، 4 مارس/ آذار 2025]]. وبالرغم من أنها غير مرجحة، فإن إمكانية المواجهة بين إسرائيل وتركيا لم تعد مستبعدة، إذ تدهورت العلاقات المتبادلة بين البلدين أكثر منذ السابع من أكتوبر 2023. وهكذا، إذا كان الوضع السوري الجديد يميل إلى تقريب تركيا من الأوروبيين، فإنه في المقابل يؤدي إلى تعقيد علاقة تركيا مع الولايات المتحدة وخصوصاً مع إسرائيل. صحيح أن الأطراف الثلاثة رحّبت باستبعاد إيران من الخريطة السورية الجديدة، لكن الأبعاد الإسرائيلية والكردية قد تكون مصدراً لصراعات متجددة أو حتى جديدة بالنسبة لأنقرة.
أي وسيط لأوكرانيا؟
في 14 فبراير 2025، سمح أردوغان لنفسه بأول انتقاد صريح لسياسة دونالد ترامب في الشرق الأوسط، معتبراً أن الولايات المتحدة لديها “منهج خاطئ” تجاه المنطقة، وأعرب عن أسفه لتجاهل واشنطن لـ”تاريخ وجغرافية” الشرق الأوسط. وبعد أربعة أيام في 18 فبراير، أسهم اللقاء الأميركي الروسي في الرياض في إبعاد أنقرة أكثر عن واشنطن، فقد احتكرت السعودية دور الوسيط في تسوية الحرب في أوكرانيا الذي كانت تحلم تركيا بلعبه، من خلال استقبال مفاوضين من البلدين. واستقبل أردوغان، في اليوم نفسه، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وزوجته (أولينا زيلينسكا) بحرارة في أنقرة، وأكّد أن بلاده هي “المكان المثالي” لعقد مفاوضات تهدف إلى إنهاء الصراع. سيعتمد الأمر أيضاً على المقاربة الأميركية للقضية الكردية والعلاقات التي ستقيمها تل أبيب مع النظام الجديد في دمشق وحتى مع الأكراد. فمنذ حرب غزة، تطور موقف هؤلاء من إسرائيل، ويأمل البعض في تل أبيب أن يُغرى الأكراد بالتقرب منهم ضدّ تركيا ومرتزقتها السوريين.
لكن يمكن أن تخفف التحولات الداخلية في تركيا من هذه التوترات. فمنذ أكتوبر 2024، شرعت الحكومة التركية في استئناف عملية التسوية مع الأكراد التي قطعتها بشكل مفاجئ قبل عشر سنوات. وبدأ وفد من حزب الشعوب الديمقراطي، وهو التشكيل البرلماني الكردي في تركيا، سلسلة من الزيارات إلى جزيرة إمرالي حيث يقضي عبد الله أوجلان زعيم “العمال الكردستاني” عقوبة السجن مدى الحياة، ودعا أوجلان إلى ترك السلاح وحل الحزب. وقد ساندت حكومة أربيل المحلية الكردية هذه الخطة، ورحبت به الأطراف الكردية التابعة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، بينما أكدت أنقرة أنها توشك على “حل المسألة الكردية”. على الرغم من ذلك، لا يمكن أن نتجاهل موجة القمع الشديد منذ بداية هذا العام، والتي انهالت على أعضاء البرلمان ونشطاء من المعارضة أو المجتمع المدني، إذ اتُهموا زيفاً في أغلب الأحيان “بإقامة علاقات مع الإرهاب (الكردي)”. لذلك وجب الحذر من نتائج مسعى المصالحة، والمرتبط بدوره ببحث أردوغان عن حلول تسمح له بتعديل الدستور والترشح لولاية رئاسية جديدة.
يُنشر بالتزامن مع “أوريان 21”
https://orientxxi.info/ar