ملخص
لم يكن شيلر في حاجة إلى تلحين بيتهوفن كلماته الرائعة حتى يشتهر، فهو كانت له على الدوام مكانته، بفضل أشعاره ولكن، خصوصاً، بفضل مسرحياته التي لا تزال تجعل منه حتى اليوم واحداً من أكبر كتاب الدراما في التاريخ.
عندما قدم بيتهوفن سيمفونيته التاسعة للمرة الأولى عام 1823 في فيينا، فوجئ المستمعون، وكانوا من خيرة الذواقة والعارفين بالموسيقى السيمفونية، بجديد أدخله الموسيقي الأهم، في الحركة الرابعة، على سبيل الخاتمة، كان الجديد نشيداً غنائياً بأصوات الكورس، لم يسبق له مثيل في ذلك النوع الموسيقي، إذ إن الفن السيمفوني كان مقتصراً على الآلات تتفاعل وتتناغم في ما بينها وتتقاطع وتتجاور.
إلا أنه هنا في هذه السيمفونية العجيبة لم يتورع بيتهوفن عن إدخال الكلام، كما يفعل كبار ملحني “الأوراتوريو”، وليس أي كلام بالطبع، كان ما لحنه بيتهوفن هنا، في نغم سيقول الدارسون إنه كان من أبسط ما وضع في تاريخه (إذ استخدم سلم “ري” كاملاً تقريباً من دون أي إضافات وتعقيدات).
بدا واضحاً أن بيتهوفن إنما أراد أن يترك المكانة الأولى للنشيد نفسه، لأن النشيد كان من وضع فردريك شيلر، شاعره المفضل، وكان عنوانه “نشيد إلى الفرح” وهو النشيد نفسه الذي ستختاره أوروبا بعد أكثر من قرن ونصف القرن ناطقاً باسم مستقبلها، وكيف تراها لا تفعل والنشيد يقول “يا جذوة الفرح، أيها القبس الإلهي الجميل، يا بنت وادي الهناء، إنا لنرد قدسك نتلظى بنشوة حمياك، يا بنت ماء السماء؟”.
المهم أن بيتهوفن عبر في تلك الخطوة عن المكانة المحفوظة لشاعر ألمانيا الرومانسي الأكبر، ومع هذا لم يكن شيلر في حاجة إلى تلحين بيتهوفن كلماته الرائعة حتى يشتهر، فهو كانت له على الدوام مكانته، بفضل أشعاره ولكن، خصوصاً، بفضل مسرحياته التي لا تزال تجعل منه حتى اليوم واحداً من أكبر كتاب الدراما في التاريخ، وفي الأقل “شكسبير اللغة الألمانية”.
مكانة فضلى للتاريخ
في معظم مسرحياته اهتم شيلر بالتاريخ، كما اهتم، مثل كل الرومانسيين، بالتعبير عن الطابع الإنساني للفن، وعن الهوة العميقة بين الواقع والمثل الأعلى، ثم خصوصاً عن الحرية والمسؤولية والعلاقة الكأداء بينهما.
ولئن كان معظم أعمال شيلر، مؤسس تيار الرومانسية في الأدب الألماني خلال القرن الـ18 إلى جانب غوته، قد تناول التاريخ، فإن علم التاريخ نفسه لم يكن بعيداً من اهتمامات شيلر، فهو كان أصلاً من المتتلمذين على يد الفيلسوف كانط، ودرس التاريخ خلال حقبة من حياته، وكذلك وضع كثيراً من المؤلفات التاريخية.
طبعة من كتاب نظرية حرب الثلاثين عاما لشيلر (أمازون)
وبين مؤلفات شيلر التاريخية قد لا يكون كتابه، “ما هو التاريخ الكوني ولماذا يدرس؟” الأشهر بين مؤلفاته، ناهيك بأنه أيضاً أصغرها حجماً، لكن أهميته تكمن في أن قراءته تعطينا ألف مفتاح ومفتاح ليس فقط لفهم النظرة الرومانسية إلى التاريخ، بل خصوصاً لفهم أعمال شيلر نفسها (المسرحية بخاصة) وتحري أسباب كتابته لها وعلاقتها بالواقع.
في هذا السياق تصدق هنا المقولة التي تفيد بأن “الأعمال الصغرى والثانوية للمبدعين الكبار هي دائماً الأقدر على أن تفسر لنا مغاليق أعمالهم الكبرى”.
افتتاح للتدريس الجامعي
كان شيلر في الـ30 من عمره عام 1789 حين عين أستاذاً للتاريخ في جامعة ينا، وهو كتب هذا النص في العام نفسه على شكل محاضرة افتتاحية لدروسه التالية، ومن هنا كان من الواضح أن ثمة في النص طابعاً جديداً واستفزازياً رغب شيلر عبره أن يفاجئ تلامذته، ويؤكد هويته الإبداعية في التعارض مع مهنته الأكاديمية.
وهكذا نجده يبدأ محاضرته محدداً التناقض الهائل بين نظريات “الاختصاصيين” الضيقة، وتفتح ذهن أصحاب “العقول الفلسفية” على اعتبار أن هؤلاء هم الوحيدون القادرون على الوصول إلى “أرحب التوليفات”. وبعد ذلك من أجل شرح تصور للتاريخ الكوني يعود شيلر – وفق مفسري عمله الفذ هذا – إلى “جذور الإنسانية حين كان الإنسان مسحوقاً بين العبودية والجهل وضروب الغيبيات من جهة، وبين حرية لا حدود لها يتوق إليها، من جهة ثانية”.
وشيلر يرى أن هذه الوضعية لا تمكن معارضتها إلا بالتعبير عما وصل إليه الإنسان من ثقافة حديثة أنقذته، أو هي في سبل إنقاذه، في ذلك الانسحاق. وكان من الواضح أيضاً أن شيلر إنما يسير أميناً في تفكيره مع نزعته المثالية، حين نراه يقول إن الثقافة الحديثة قد “نسفت الحواجز التي كانت تفصل بين الجماعات، أي نسفت كل تلك الأنانيات المعادية لبعضها بعضاً”، مما أدى إلى خلق “حيز كوزموبوليتي يوحد بين أصحاب العقول المفكرة”.
مراحل عبور الإنسانية
بالنسبة إلى شيلر فإن التاريخ الكوني يرينا المراحل التي عبرتها الإنسانية لكي ترتقي من الوضعية البدائية التي كانت تعيش في أحضانها، وصولاً إلى وضعيتها الراهنة، غير أن هذا العرض يتيح لشيلر في الوقت نفسه أن يتحدث عن مختلف الطوابع والسمات الإثنية وعن مختلف مستويات الثقافة التي عبرتها الإنسانية.
وإذ يفعل شيلر هذا، إنما يمكننا – وفق رأيه – من أن “نرى كيف أن كل تلك السلسلة من الأحداث والتعاقبات ليست في حقيقتها سوى حلقات من سلسلة طويلة تعتمد على مفهوم السبب والنتيجة والعلاقة في ما بينها”.
هنا يحذرنا شيلر قائلاً إن إدراك هذا الأمر وهذا التدرج التعاقبي السببي ليس متاحاً لأي كان “لأن العقول المتنورة والواعية هي الوحيدة التي يمكنها أن تدرك هذا كله في وحدته وسيرورته”.
فريدريش فون شيلر رسخ وجودية الشعور القومي الألماني
أوبرا “عذراء أورليان” كما لحنها تشايكوفسكي اقتباسا من فردريك شيلر
أجواء احتفالية أوروبية بالمئوية الثانية لسيمفونية بيتهوفن التاسعة
ويتابع قائلاً إن “جمهرة الوثائق والوقائع التي تبدو للناظر إليها عشوائية تختلط في ما بينها، إنما هي القاعدة التي ينطلق منها التاريخ الكوني، ولكن في حركة عكسية، أي من الحاضر إلى الماضي، وهذا التاريخ لا يتوقف خلال مساره إلا عند ما يهمه حقاً من تلك الجمهرة”.
وما يهمه بالنسبة إلى شيلر يرتبط “بوضعيتنا الراهنة ونظرتنا الحالية إلى الأمور، ومع هذا بالنظر إلى التغيرات المتعاقبة وفقر المصادر التي يمكن الارتكاز إليها لن يكون هذا التاريخ نفسه الذي نتحدث عنه سوى شتات من مقاطع وجزئيات، فإن كنا لا نمتلك الروح الفلسفية المدركة لن يمكننا فهم أي شيء، ذلك أن هذه الروح هي التي بمؤازرة العقل الواعي توحد بين المقاطع والجزئيات في منظومة كلية تماثل بين كل عنصر وطبيعته العقلانية، رافعة كل ظاهرة إلى مستوى الفكرة الواعية”.
طموح مثالي
فردريك شيلر إذ يعرض هذا كله ببساطة وحماسة لا يفوته أن يعلن في الوقت نفسه أن هذا الطموح المثالي للوصول إلى “تاريخ كوني حقيقي” لن يمكنه أن يتحقق إلا “في مستقبل بعيد”، غير أن كل خطوة في هذا السياق، إنما تكون إنجازاً على طريق الوصول إلى الكمال.
ويخلص هنا إلى أن دراستنا حياة ومسار كل طاغية وكل أناني هي التي تعلمنا أن “الإنسان الأناني، إذ يتبع أهدافه القميئة، هو الذي يقود خطانا من دون وعي منه نحو الأهداف العليا”، وهو أمر يمكن أن نربطه بما كتبه ماركس لاحقاً حول “دور المجرم في صناعة التاريخ”.
ولد الكاتب والمفكر الألماني فردريك شيلر عام 1759، وأصدر عام 1781، حين كان بعد في الـ23، مسرحيته الأولى “اللصوص” التي نالت على الفور نجاحاً كبيراً، إذ قارن النقاد بين شخصيتها الرئيسة كارل فون مور، وبعض شخصيات شكسبير (ريتشارد الثالث والملك لير)، ووصلت شهرة شيلر يومها بسرعة إلى إنجلترا، حيث حياه كبار كتابها، ومنهم كولردغ، الذي سيكتب لاحقاً سوناتا خاصة بالشاعر الألماني.
ومنذ ذلك الحين تتابعت أعمال شيلر بين مسرحيات وشعر ونصوص تاريخية، ومن أشهر تلك الأعمال مسرحية “الخديعة والحب” (1784) التي اقتبس منها فردي أوبرا “لويزا ميلر”، و”دون كارلوس” التي اعتبرت دائماً من أكبر الأعمال الدرامية الألمانية، و”ماريا ستيوارت” و”عذراء أورليان” و”ويليام تل”.
أما في مجال الشعر فأصدر مجموعات عدة، منها ما كتبه مع غوته، أما أشهر قصائده فقصيدة “الفنانون” التي تحدث فيها عن تأثير النزعة الإنسانية في الفن، وقد كتب شيلر أيضاً كثيراً من المؤلفات الفكرية والفلسفية ومن أهمها “تربية الإنسان الفنية” و”عن الشعر الساذج والعاطفي”، ومات عام 1805.