تحوز الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة، بعد عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها حركة حماس في 7 أكتوبر، اهتماما سياسيا وإعلاميا كبيرين، ما أفضى إلى انحسار الاهتمام بحروب وأحداث ساخنة كثيرة، وخصوصا الحرب التي يشنها نظام الأسد، بدعم روسي وإيراني، على مناطق في الشمال السوري، وكذلك الحروب في أوكرانيا والسودان وغيرهما. وشكل الانشغال الدولي بإسرائيل وبحربها على غزّة فرصة سانحة لنظام الأسد، كي يستغلها لتصعيد وتيرة عملياته العسكرية على مناطق إدلب وجوارها، فارتكب مجازر عديدة فيها، وأفضت إلى تشريد أكثر من مئتي ألف سوري من مناطق سكنهم، ومعظمهم بالأصل من النازحين والمهجّرين قسرياً. وقد اعتاد هذا النظام على توظيف كل الظروف الدولية والإقليمية واستغلالها للإمعان في قتل السوريين وتشريدهم. والأنكى تشدّقه بوصف بشاعة مجازر إسرائيل في غزّة، في حين أنه ارتكب، هو الآخر، مجازر شنيعة في حقّ السوريين، خلال عمليات القصف وهجمات قواته والقوات الروسية والإيرانية، ودمّرت عشرات المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية في مناطق سيطرة المعارضة، خلال الحرب المستمرّة التي يشنّها عليها منذ 2011.
وقد حضرت بعض تفاصيل حرب نظام الأسد على السوريين في أكثر من مناسبة بوصفها نموذجاً، يمكن لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية اتباعه، حيث كتب توماس فريدمان في مقاله في “نيويورك تايمز” إن ساسة إسرائيل وجنرالاتها يطبّقون “قواعد حماة” على قطاع غزّة، حماة التي ارتكب فيها نظام الأسد الأب مجزرة بحق ساكني المدينة في 1982، وتتبع إسرائيل في حربها على غزة استراتيجية تشابه تماماً لاستراتيجية الأسد، والتي تقوم على القصف العشوائي والهمجي، وتدمير مساكن المدنيين على رؤوسهم، وإزالة كل ما يعترض دخول الآليات والمجنزرات، مع توغّل جنودها وسط ركام حطام المباني والمرافق، وجثث الضحايا المتراكمة بين الأنقاض وفي الشوارع.
وقد حاول بعض ساسة اليمين المتطرّف في إسرائيل تبرير جرائمهم بحقّ الشعب الفلسطيني، عبر مقايسة جرائمهم بالتي ارتكبها نظام الأسد بحق السوريين من قصف للمدارس والمستشفيات ومنع للغذاء والدواء عن المناطق المحاصرة، ومحاولة تبرير سعيهم إلى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، مثلما هجّر ملايين السوريين إلى دول الجوار وسواها من بلدان الشتات.
لم يقتصر حضور ما خلفته حرب الأسد على السوريين في الجانب السياسي، بل امتد إلى الأدب، وتجسّد ذلك، أخيرا، في رواية “أغنية نبي” للأيرلندي بول لينش، التي نالت جائزة بوكر الدولية في نسختها لعام 2023، حيث لم يُخفِ لينش أن روايته مستوحاة من مآسي الحرب في سورية والكارثة التي خلفتها، بتحويل ملايين السوريين لاجئين، وأنه أراد من خلالها توضيح معنى النظام الشمولي لأبناء بلده أيرلندا، بتسليط الضوء على الواقع المرير في البلدان التي تحكمها.
تخيّل الروائي انحدار أيرلندا نحو نظام استبدادي، لأنه، كما يقول، لم يتمكّن من الكتابة مباشرة عن سورية، لذلك أحضر المشكلة إلى أيرلندا محاكاة لها، فاتخذ نموذج نظام الأسد وممارساته ضد السوريين، بوصفه مرتكزاً لنهج الواقعية الشديدة في كتاباته، حيث كتب على الموقع الإلكتروني لجائزة بوكر إن روايته تحاول رصد “الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية، والأزمة السورية التي أفضت إلى انهيار أمة بأكملها، وحجم أزمة اللاجئين التي نتجت عنها، ولامبالاة الغرب حيالها”.
إذاً، حضرت مأساة السوريين روائياً من باب تعميق تعريف القارئ الأوروبي بما حلّ بالسوريين، وتحذيره مما سيحلّ به إن جنحت بلاده نحو هاوية نظام الأسد الاستبدادي، وبما يعيد التذكير بروايات غربيين آخرين في السياق نفسه، خصوصا رواية “1948”، التي كتبها إيرك بلير الذي عُرف باسمه المستعار جورج أورويل، وكذلك روايتا مارغريت أتوود “حكاية أمة”، وكورماك مكارثي “الطريق”.
لن يهنأ النظام بما فعله بالسوريين وببلدهم، إذ ستظلّ مأساة السوريين حاضرة في الضمير الإنساني، وحيّة في الفكر والفن والأدب، كما أن العدالة الدولية لن تغفر له ارتكابه جرائم متعدّدة بحقهم، إذ ستظل الدياسبورا السورية شاهدة على معاناة لن تُمحى، وستظل حفرة مجزرة حي التضامن حيّة، وكذلك مجزرة السلاح الكيميائي في غوطتي دمشق في أغسطس/ آب 2013، وسواها من مجازر النظام.
لا يقتصر الأمر على الجانب السياسي أو الأدبي، بل هناك أيضاً دعاوى حقوقية تلاحق أركان نظام الأسد في عدة دول أوروبية، جديدها أخيرا إصدار القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال دولية بحق بشار الأسد وثلاثة مسؤولين آخرين في نظامه، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، جراء هجمات باستخدام أسلحة كيمياوية، الأمر الذي يؤكّد أن جرائم نظام الأسد ما تزال برسم العدالة الدولية. والمأمول ألا يفلَت المجرمون من العقاب، إذ لا بد أن يأتي يومٌ يحاكَمون فيه على الجرائم التي اقترفوها بحقّ الشعب السوري، إحقاقاً للحق، وإنصافاً للضحايا والثكالى وذويهم.