-
-
-
تُكتب الدساتير من قبل لجان مُنتَخبة أو مُعيَّنة حسب ظروف كل بلد، ولكنها تُكتَب ليس وفق ما تراه هذه اللجان صحيحاً أو صائباً من وجهة نظرها أو حسب ما يقوله الفقه الدستوري، بل تكتُبه وفق التوافقات بين المُكوّنات والقوى السياسية والاجتماعية والعسكرية المؤثّرة في بلدٍ ما، وفي فترةٍ تاريخية معينة. ويتم عادةً الاستفتاء على الدستور شعبياً ليعكس الإرادة العامة، ليصبح بعدها نافذاً، ويتّصف عموماً بالديمومة والثبات، ولكي يخضع تعديلُه لإجراءاتٍ دستورية معقدة.
الإعلان الدستوري ليس دستوراً، وآليات كتابته وإقراره مختلفة. الإعلان الدستوري هو وثيقةٌ مؤقتة تُصدرها سلطةٌ حاكمة بعد تغييرٍ سياسيٍّ كبير، مثل انقلاب أو ثورة أو تأسيس دولة جديدة. لا يخضع الإعلان الدستوري للاستفتاء، ويُعتبر إطاراً قانونياً مرحلياً يُنظّم السلطات، ويُحدّد أسس الحكم إلى حين صياغة دستور دائم.
حدّدَ الإعلانُ الدستوري السوري الصادر عن رئيس الجمهورية بتاريخ 13 آذار (مارس) 2025 مدةَ المرحلة الانتقالية بخمس سنوات ميلادية، تبدأ من تاريخ نفاذ هذا الإعلان الدستوري، وتنتهي بعد إقرار دستورٍ دائمٍ للبلاد وتنظيم انتخاباتٍ وفقاً له. أي أننا لسنا في وضعٍ ديمقراطي حقيقي مُستنِد إلى انتخاباتٍ شعبية، وإنّما في مرحلةٍ انتقالية نتمنى أن تصل إلى الديمقراطية، وعليه لا يمكن تحميل الإعلان الدستوري أكثر مما يُطيق ويَحتمل.
الإعلان الدستوري ضمن شرطه
يجب مناقشة الإعلان الدستوري سياسياً في ظل شرطه التاريخي والواقعي، وليس فقط حقوقياً، لأن السياسة الواقعية وحدها هي التي تجد طرائِقها الواقعية والمُؤثرة.
أولاً: بخصوص النقاش حول مصادر التشريع
أوردَ الإعلانُ الدستوري أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. هذه مادةٌ كانت موجودةً في أغلب دساتير الدولة السورية، وليست بدعةً جديدةً جاء بها الإعلان، الذي لا يحق له الابتداع أو الفصل في القضايا الخلافية التي يمكن أن تُؤجّل إلى حين صدور الدستور الدائم، وقد حافظت على وجودها حتى أنظمةٌ كانت تدّعي «العلمانية». بالمقابل، كان حذفها سيسبّب غضباً ورفضاً كبيراً من قبل قطاعات أخرى من المجتمع، ويضع السلطة «ذات الطابع الإسلامي» في موقعٍ متناقضٍ ومواجهةٍ مباشرةٍ مع قاعدتها الاجتماعية التقليدية.
لم يَعنِ وجود هذا النص في العديد من الدساتير السابقة، استناداً إلى تجربتنا التاريخية مع وجوده، أن الفقه الإسلامي بات هو أساس التشريع في سورية، بل كانت هذه المادة أقرب ما تكون إلى مادةٍ توجيهيةٍ للمُشرّعين بألّا يسنّوا قوانين تتناقض مع المفهوم الغامض: «الفقه الإسلامي»، وظلَّ التشريعُ، على الدوام، من عمل السلطة التشريعية.
ورغم أني أرى عدم ضرورة وجود هذه المادة في الإعلان الدستوري أو في الدستور الدائم من حيث المبدأ، لأنها تعتبر مادةً تمييزيةً لصالح فئةٍ من المجتمع، وهذا غير مقبول في الدستور التي يستند إلى قاعدة المساواة في المواطنة؛ ولكن في المقابل لا ينبغي تجاهل إيراد المصادر الأخرى للتشريع التي تضمن الحريات والحقوق والمساواة ومدنية الدولة، والتي وردت في المادة 12 من الإعلان نفسه، والتي تَعتبِرُ «جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري».
ثانيا: بالنسبة لشكل نظام الحكم وصلاحيات رئيس الجمهورية
المعروف أن أشكال الحُكم تتحدّد بثلاثة خياراتٍ أساسية؛ وهي النظام الرئاسي، وأشهر مثالٍ عليه هو نظام الولايات المتحدة الأميركية؛ والنظام البرلماني الذي يكون فيه رئيس الوزراء هو رأس السلطة التنفيذية، كما في حالة الهند وألمانيا؛ والنظام المُختلَط أو شبه الرئاسي، كما في فرنسا.
أعتقد شخصياً أن أفضل شكل لنِظام الحكم في المرحلة الديمقراطية في سوريا هو النظام المُختَلَط، أما في المرحلة الانتقالية فلا أعتقد أن هناك أرضية موضوعية لتطبيق النظام البرلماني أو المُختَلَط، وذلك بسبب غياب الاستقرار الأمني والسياسي وتَعدُّد الفصائل العسكرية خارج الجيش المشكّل حديثاً، وعدم اعتراف بعض تشكيلات المكونات السورية العسكرية بشرعية السلطة الجديدة، والتدخلات الخارجية المتنوعة، وعدم وجود أحزاب سياسية وازنة، واستمرار العقوبات الدولية التي تُعيق عجلة الاقتصاد عن الدوران. وفي الواقع، إنّ أيَّ انتخاباتٍ حالية في ظل غياب الأطر السياسية، ورغم صعوبة إجرائها وعدم شموليتها، فإنها قد تنتج القوى الأكثر تطرفاً وطائفية، ومزيداً من حالة الفوضى وعدم الاستقرار. لذلك، أرى أن شكل النظام الأفضل لسوريا حالياً هو النظام الرئاسي، وما ورد في الإعلان الدستوري من صلاحياتٍ للرئيس هي نفسها المعمول بها في عددٍ من الدول التي تأخذ بهذا النظام، مع ضرورة وجود آليةٍ لمحاسبة الرئيس، وهي التي غابت عن الإعلان الدستوري، ويُعتبر غيابُها نقصاً خطيراً يجب تداركه.
ثالثاً: الحريات والحقوق
إن المادة الثانية المرتبطة بالفصل بين السلطات، والمواد من 7 حتى 22 حول الحريات وتنظيم السلطات، هي مواد مُتقدّمة جداً على الصعيد الحقوقي وتؤسّسُ قاعدةً راسخةً للشروع في بناء دولة ديمقراطية. ولأول مرةٍ في تاريخ سورية ينصُّ الإعلان الدستوري على حماية المرأة من العنف في الفقرة 2 من المادة 21: «تكفل الدولة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة، وتحميها من جميع أشكال القهر والظلم والعنف».
رابعاً: العدالة الانتقالية أساس بناء الدولة الجديدة
يُشكّلُ ورود المادتين 48 و49 في الإعلان الدستوري التزاماً قوياً ببناء الدولة على أساسٍ من تحقيق العدالة الانتقالية التي تعتمد آلياتٍ فاعلةٍ تشاورية مُرتكِزة على الضحايا لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف الضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء، وتجريم تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، وتجريم إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها. وتحافظ المادة 51، التي تنصُّ على: «استمرار العمل بالقوانين النافذة ما لم يتم تعديلها أو إلغاؤها» على استمرار عمل الدولة ومؤسساتها.
هل المطلوب رفضُ الإعلان أم تعديلُه؟
أعتقد أن المهمة الأساس في سوريا حالياً هي استكمالُ بناء الدولة بمُستويَيْها: سلطة الدولة، أي الإطار الشرعي الذي يُوجّه عمل الدولة من دستور وقوانين، واستكمال بناء أجهزة الدولة التي تنتُجُ عن تلك السلطة، مثل الوزارات والبرلمان والمحاكم والشرطة والجيش.
وهذه المهمة هي عملٌ تراكمي، وهي أسيرةُ الشروط التاريخية والتوافقات الاجتماعية والسياسية، و جميعنا نُدرك خطورة المرحلة الانتقالية وتحدياتها وحاجة السوريين والسوريات إلى توافقاتٍ وطنيةٍ جامعة، وإلى ضرورة تغليب «أخلاق المسؤولية» على «أخلاق الاقتناع أو الاعتقاد». نواقص الإعلان الدستوري أو الاختلاف مع بعض مواده لا يجب أن تدفعنا الى رفضه، لما لغياب الالية الدستورية والضوابط القانونية من خطورةٍ على عمل الدولة وأجهزتها، وعلى دفع العملية السياسية في سوريا إلى الأمام. وأيُّ تأخيرٍ في ذلك سينعكس سلباً على الاستقرار الأمني والسلم الأهلي.
إن الطريقة الأجدى سياسياً هي اعتبارُ مخرجات مؤتمر النصر ومؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري خطواتٍ منقوصةَ الشرعية لأنها لم تأتِ عبر توافقٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ شامل، ولذلك ينبغي الدفع لاستكمال هذه الخطوات. ويبدأ هذا الاستكمال بتحويل مجلس الشعب المُزمَع تشكيلُه إلى مجلسٍ وطنيٍّ تأسيسي حقيقي يُمثّل جميع القوى الديمقراطية والمجتمع المدني والمكونات السياسية والاجتماعية والقومية والدينية بكافة تلاوينها، ومن ثم تحديد النقاط والمَواد المُختَلف عليها، مثل اسم الدولة وصلاحيات رئيس الجمهورية ومرجعية التشريع وتجاهل التعددية القومية والدينية وكيفية تشكيل لجنة كتابة الدستور الدائم وغيرها من الاعتراضات المُحقّة. وينبغي أن تُفرَزَ هذه الاعتراضات بين مواضيع يمكن معالجتُها في إطار الدستور الدائم، وبين نقاط تحتاجُ تعديلاً في الإعلان الدستوري الراهن، ويمكن تعديلها وفق الآليات المعتمدة في الإعلان الدستوري، ليكون نقطةَ انطلاقٍ شرعية للسير قُدُماً في المرحلة انتقالية للوصول إلى دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطية تعدّدية.
-